لايوجد في التاريخ الحديث مثل آخر مثل نكبة فلسطين على غزو أقلية أجنبية لأغلبية وطنية وطردها من ديارها التاريخية، وإزالة آثارها العمرانية والثقافية، في عملية منظمة بدأت منذ خمسين عاماً ولاتزال مستمرة، بدعم مالى وعسكرى وسياسى من الغرب، واعتبار هذه الجريمة الشنيعة انتصار للحضارة الغربية ومعجزة آلهية فريدة.
وبينما نجح عالمنا خلال القرن الماضى في التخلص إلي حد كبير من شرور الاستعمار والفاشية والنازية والفصل العنصرى (الابرتهايد)، وانطلق ملايين الناس من ربقة هذه العبودية، يبقى أهل فلسطين الشعب الوحيد في القرن الواحد والعشرين الذى لاتزال تمارس عليه كثير من هذه الشرور مجتمعة.
ومنذ أكثر من نصف قرن عند إنشاء الأمم المتحدة خلفاً لعصبة الأمم، لم يحدث قط أن استُغلت هذه الهيئة الدولية كغطاء لتسليم السيادة في موطن شعب إلي أقلية مهاجرة، لكى تقيم عليه دولتها التي يستثنى منها مواطنو تلك الأرض مثلما حدث في فلسطين. ولم يحدث قط أن خرقت دولة المواثيق والقرارات الدولية بنفس الكثافة والاستمرار والتحدى للمجتمع الدولى مثلما فعلت اسرائيل، تلك الدولة المدينة أصلاً للأمم المتحدة بغطاء شرعيتها.
ما العامل المشترك الأعظم في كل هذه الأحداث؟ أن هناك قوة غربية خارجية بكل أنواع الدعم. ولايهمنا هنا أن اسرائيل تتقمص روح الغرب وتسيّره غلي أهدافها، أو العكس، فالنتيجة واحدة.
مقابل هذا، نجد المجتمع الدولى، بغالبية سكانه الساحقة، وضعفه العسكرى والاقتصادى، متمسكاً بمبادئ العدالة والقانون الدولى، يؤيدها بإصرار ودون كلل. هذ هى المعادلة إذن: شعوب الأرض الضعيفة تقف مع الحق، والقلة القوية من الدول تقف مع الباطل أو على الأقل لاتعمل شيئاً لإزالته. من هنا فأن البعد الدولى لقضية فلسطين يطل من أهم العوامل المؤثرة.
الكونت فولك برنادوت من النبلاء السويديين، قام بأعمال انسانية اثناء الحرب العالمية الثانية في الصليب الأحمر الدولى ومن بينها إنقاذ اليهود من الالمان، اختارته الأمم المتحدة ليكون الوسيط الدولى لحل قضية فلسطين بعد أن أتضح أن مشروع تقسيم فلسطين (قرار 181) غير ممكن التطبيق. عندما وصل إلي فلسطين في منتصف عام 1948، وجد أن القوات اليهودية، دون تدخل من القوات البريطانية في فلسطين والقوات العربية خارجها، نجحت في طرد أهالى 213 قرية ومدينة من ديارهم وهؤلاء عددهم 000ر414، أى أن أكثر من نصف اللاجئين أصبحوا كذلك وهم تحت الحماية البريطانية وقبل تدخل العرب لإنقاذهم. بعد شهر من وجوده في فلسطين، في يونيو 1948، تبّين لبرنا دوث حقيقة المأساة في فلسطين. شاهد بنفسه مئات الآلاف من اللاجئين يطردون من قراهم، وفي نفس الشهر قرر بن جوريون إعلان ما كان يخطط له طوال السنوات السابقة: لاعودة للاجئين. وبمعنى آخر أصبحت عملية التنظيف العرقي سياسة اسرائيلية رسمية معلنة. وفي أغسطس، بعد شهر من طرد 000ر60 من أهالى اللد والرملة، وصل برنادوت إلي قناعة تامة بأن لن يكون هناك سلام في فلسطين دون عودة اللاجئين وكتب آخر تقرير له في سبتمبر قبل اغتياله في 1948/9/17 هذا التقرير الذى أصبح الوصية الرسمية للأمم المتحدة والتى شملت في القرار الشهير رقم 194 في 11 ديسمبر 1948.
أسون هذه التفاصيل لأبين عمق المأساة التى حفزت برنادوت والمجتمع الدولى ورائه إلى اعتبار عودة اللاجئين أساساً للسلام. ولكى أبين كيف كشفت هذه المأساة عن اعتراف بن جوريون بسياسة التنظيف العرقى كسياسة رسمية لاسرائيل ورفضه لعودة اللاجئين.لكن المأساة الأكبر أن هذين الوضعين المتناقضين لا يزالون قائمين اليوم كما هما دون تغيير، فلا اللاجئون استطاعوا العودة، ولا اسرائيل استطاعت القضاء عليهم، ولكنها استطاعت الاستيلاء على أرضهم وممتلكاتهم في أكبر عملية نهب منظمة في التاريخ.
اليوم يوجد 000ر250ر5 لاجئ فلسطينى منهم حوالى 4 مليون مسجلون لدى الادنروا، منهم 46% داخل فلسطين التاريخية، و42 % في إطار حول فلسطين في الاردن وسوريا ولبنان. والباقى 12 % نصفهم في البلاد العربية والنصف الآخر في بلاد أجنبية. طردوا من 531 قرية ومدينة، وأرضهم تساوى 92 % من مساحة اسرائيل. وهكذا أقيمت اسرائيل على أرض 92 % منها مسروق.
أود التذكير بأن القرار 194 هو في الواقع 3 قرارات في آن واحد، أولها وجوب عودة اللاجئين إلي ديارهم، وثانيها تقديم المساعدة لهم إلي أن يتم ذلك. وهذا سبب إنشاء الاونروا، وثالثها انشاء آلية لتنفيذ العودة وهذه الآلية هى هيئة التوفيق لفلسطين.
وخلافاً عما تدعى اسرائيل، كان العرب في مباحثات لوزان 1949 - 1951 التي أفشلتها اسرائيل مستعدين للاعتراف باسرائيل، بل وقد أُرفقت خريطة التقسيم ببروتوكول لوزان، ولكنهم أصروا على شرط عودة اللاجئين إلى ديارهم أولاً.وليس هناك تعارض بين عودة اللاجئين وقرار التقسيم رقم 181، فهذا القرار يقضى بأحقية كل مواطن في العيش في بيته المعتاد ويضع الضوابط لمنع التمييز العنصرى أو الدينى على أى مواطن. أى أن قرار التقسيم يرفض أى إزاحة أو طرد للسكان، ولكنه يوافق على بسط سيادة دولة عربية أو يهودية على المكان المخصص لها، بحيث يبقى كل مواطن في بيته،
هذا المبدأ الاساسى، عودة اللاجئين، أكد عليه المجتمع الدولى أكثر من 100 مرة خلال 50 سنة في إجماع دولى منقطع النظير. وحق العودة حق شخصى نابع من ميثاق حقوق الإنسان وحرمة الملكية الخاصة، وهو لا ينقضى بالتقادم، ولاتجوز فيه الإنابة أو التمثيل عنه. كما أن حق جماعى نابع من حق تقرير المصير.
وقد أكدت الأمم المتحدة على ذلك في عدة صور. منها أن الفلسطينيين هم الشعب الوحيد في العالم الذى اختص بهم هذا القرار، ولهذا السبب فإنهم استثنوا من معاملتهم كمهاجرين لاسباب دينية أو عرقية أو سياسية، يلزم ايوائهم وتوطينهم كما هو الحال في ميثاق مباحثة اللاجئين الذى يشرف عليه المفوض العام للاجئين.
لقد نجح بن جوريون في إفشال مباحثات لوزان، لأنهم يعلم أن نجاحها معناه عودة اللاجئين واسترجاع بعض الاراضى المحتلة. وبدأت اسرائيل خطة مضادة، لاتزال تعمل بها حتى اليوم. طالما بقى اللاجئون ظاهرين للعيان، وبقى إصرارهم على العودة، تبقى المشكلة قائمة. ولذلك من الضرورى التخطيط للتخلص منهم. ومن هنا بدأت مشاريع التوطين، التى لاتزال تطفو على السطح كالطحالب من وقت لآخر، دون أن تحقق أى نجاح يذكر. وفي نفس الوقت قامت اسرائيل بإقامت العوائق الفعلية تجاه عودة اللاجئين بأن قامت في الفترة 1948 - 1954 بتدمير معظم القرى الفلسطينية وأبقت على المدن دون السماح لمن بقى فيها بإصلاحها.
أول مشروع توطين صدر عام 1949 عن المعهد الملكى للشؤن الدولية في لندن. اقترحت مؤلفته سيبلاثكنس توطين اللاجئين في سوريا والعراق وليس في لبنان. وفي عام 1954 جاءت بعثة جونستون لتقترح توزيع المياه العربية في نهر الأردن واليرموك بين العرب واسرائيل، ومن بين أهداف البعثة تخصيص حصة للأردن في المياه مع مساعدات مالية لتوطين اللاجئين في مناطقها الشماليةو الشرقية.
لكن حمى مشاريع التوطين تسارعت بعدحرب 1967، عندما تزايد عدد اللاجئين وتضاعفت مساحة الأرض العربية المحتلة. وبدل أن يؤدى تزايد حجم المشكلة إلى السعى الحثيث لايجاد حل جذرى لها، ظهرت عثرات الدراسات الموجهة لاقتراح التوطين تحت غطاء الانسانية والسلام والتعاون الاقليمى. وبينما أحجمت اسرائيل في الفترة من 1948 - 1967 عن القيام بأعمال تطوير جذرية في المناطق المخصصة لدولة فلسطينية، بدأت بعد ذلك سن القوانين واتخاذ الاجراءات الفعلية للاستيلاء على أراضى اللاجئين وتوطين اليهود فيها في مستعمرات الكيبوتز.
وفي نفس الوقت قامت معاهد دراسية اسرائيلية أو امريكية يديرها يهود باستنباط مشاريع توطين من أصناف عدة، ولكنها كلها تعتمد على المبادئ الآتية:
الفلسطينيون ليسوا شعباً مثل باقى الشعوب، هم جماعة من العرب يستطيعون العيش في أى مكان من بلاد العرب، هم ليسوا حضاريين ولم يعرفوا كيف يحاربوا عن فلسطين ( ملحوظة: لا توجد بلد إسمها فلسطين ) ولذلك فهم لا يستحقونها مثلنا. لقد خرجوا من فلسطين بأوامر عربية، ولذلك على العرب ايوائهم وتوطينهم. نحن مستعدون للمشاركة بكثير من الاوامر وقليل من المال في توطينهم في الخارج، وذلك لأسباب إنسانية بحتة، إذ لا توجد علينا أى مسئولية في ذلك. لايمكن استتباب السلام في المنطقة دون التخلص من مشكلة اللاجئين.
لا يوجد مشروع للتوطين لايعتمد على هذه القواعد بصورة أو أخرى. دون بيريتز، الكاتب الامريكى اليهودى الذى عاش في اسرائيل عام 1949، يدعو إلي توطين اللاجئين في بلاد عربية، مع عودة رمزية للقلة. مارك هيللر الباحث الاسرائيلى في معهد جافى والليكودى النزعة يقترح عودة ربع اللاجئين إلي الضفة وغزة وليس إلى بيوتهم. شلومو جازين " الخبير " الاسرائيلى في اللاجئينو أول حاكم للضفة الغربية بعد الاحتلال والرئيس السابق للمخابرات العسكرية لديه مشروع متكامل " لحل النهائى " لمشكلة اللاجئين، عناصره: اعتذار اسرائيل عن النكبة في قرار دولى يلغى قرار 194، إلغاء صفة اللاجئ ووكاة الاونروا وحق العودة إلغاءاً نهائياً، وتعويض اللاجئين تعويضاً تشرف عليه إسرائيل وتدفع قيمته اوروبا والدول العربية.
بعد عام 1967، كثرت مشروعات التوطين كثرة مجموعة لا تتناسب مع الفشل الذريع الذى لاقته كل هذه المشاريع. وهذا النشاط المحموم يدل على درجة اليأس والقلق الذى تعانيه اسرائيل منعدم وجود حل يرضيها، ولأن اسرائيل والعرب والعالم يتفقون على شأن واحد فيما يخص اللاجئين: أنه لايمكن أن يسود السلام في المنطقة دون حل مشكلة اللاجئين.
آخر طبعة من مشاريع التوطين أخرجتها المحامية اليهودية الامريكية من أصل روسى دونا آرزت في كتابها " من لاجئين إلي مواطنين "، الذى نشره مجلس العلاقات الخارجية (الأمريكى). بعد أن تعرب آرزت عن ألمها لمعاناة الفلسطينيين، تتفرغ للمهمة الأساسية وهى توزيعهم على بلاد العالم. فهي تقترح نقل 000ر690 لاجئ من غزة إلي الضفة، بحيث يصبح المجموع 000ر830. وتتجاهل عودة النازحين من الاردن. ( ليس للنازحين أى معنى قانونى إلا إذا اعترفنا باحتلال اسرائيل للضفة الغربية. إذ بدون ذلك، يحق لكل مواطن أو لاجئ التنقل من ضفتى الاردن، كما ينتقل المصري بين القاهرة والإسكندرية). وتقترح آرزت ترحيل 000ر400 من لبنان. ويصل مجموع المرحّلين (ترانسفير) في خطة آرزت إلي 5ر1 مليون لاجئ، مما يحتاج إلي عدد كبير من الباصات والقطارات. كما تقترح أن توطن سوريا والأردن اللاجئين لديها. ولايمكنوصف خطة آرزت بأقل من كونها خطة " تنظيف عرقي " يعاقب عليها القانون الدولى. ولاتختلف هذه الخطة عن خطة ألمانيا النازية لتنفيذ " الحل النهائي " للخلاص من اليهود بشحنهم في قطارات تأخذهم إلي هلاكم.
وفي مارس 1997، زار وفد من مجلس العلاقات العامة الخارجية ومن مجلس النواب الامريكى عدداً من دول الخليج، واقترح على كل منها توطين 000ر35 فلسطيني سنوياً في كل دولة لمدة عشر سنوات. وحاصل ضرب هذه الأيام يبلغ 2مليون شخص المطلوب توطينهم، وهو رقم مطابق اخطة آرزت.
وقد أصدر مجلس الجامعة العربية في 1997/12/30 (الدورة 107) قراراً برفض التوطين، والتأكد على تطبيق حق العودة بموجب القرار 194 وإحياء لجنة التوفيق في فلسطين.
وفي يونيه 2000، ذكرت تقارير صحفية أن السلطة الفلسطينية طلبت مبالغ مالية كبيرة من الدول الأوروبية لتأهيل عودة 000ر800 لاجئ إلي اراضى السلطة، وقال محمد رشيد (خالد سلام) ان هذه المبالغ لمشاريع التنمية اللازمة لاستيعاب هؤلاء. ومما يلفت النظر ن عدد اللاجئين المذكور يطابق خطة آرزت وهم منقولون من منطقة عربية إلي أخرى، وليسوا عائدون إلي ديارهم.
ومن عجائب الأمور أن ينضم إلي موكب ترحيل اللاجئين وتوطينهم نفر يقل عن أصابع اليد الواحدة من الفلسطينيين، ويؤيد خطط التوطين، من منطلق " الواقعية ".
كتب أحمد سامح الخالدى (هوالد تريبون) في 1997/2/12) مقالاً يقرر فيه أن العودة " مستحيلة " وأن يكفى أن يعتذر الاسرائيليون عن معاناة الفلسطينيين النفسية. واشترك في محادثات " سرية " مع إسرائيليين حول تسوية نهائية لقضية اللاجئين. وكتب الاستاذ الجامعى في أمريكا رشيد الخالدى وحاضر كثيراً عن هذا الموضوع كالآتى: لامناص من الاعتراف بالحقوق الفلسطينية اعترافاً مطلقاً لامراء فيه. وعند تطبيق هذه الحقوق يجب على الفلسطينيين الاعتراف بأن العودة "مستحيلة "، حسب النظرية الاسرائيلية، إذ لم تبق قرى للعودة إليها، ولم يعد هناك ريف يعودون إليه، فالصناعة طغت على كل ذلك. وأن عودة اللاجئين ستقلب الميزان الديموغرافى تغير صالح اليهود وأن في مقياس المأساة، لايمكن مقارنة لوكوست اليهود في المانيا، بالنكبة الفلسطينية، فالأولى أعظم وأكبر وأكثر هولاً. وأن ليس أمام الفلسطينيين من حل إلا القبول بالتعويض والعودة (إن سمحت اسرائيل) إلي مناطق السلطة وتوطين اللاجئين حيث هم.
وسنأتى فيما بعد على تفنيد الادعاءات الاسرائيلية بأن العودة " مستحيلة " عملياً. لكننا نلاحظ في الكتابات الفلسطينية المذكورة أعلاه نغمة تصالحية، تسعى للسلام ولوعلى حساب إسقاط بعض الحقوق. ويبدو أن لهذه النغمة جذور تاريخية. كتب شبتاى تيبث مؤرخ بن جوريون أن الأخير تلقى عام 1934 اقتراحاً من الدكتور أحمد سامح الخالدى (جد الكاتب السابق) بواسطة الدكتور مجنس بتقسيم فلسطين إلي كانتونين مستقلين: عربى ويهودى برعاية بريطانيا، بحيث يكون الكانتون اليهودى بزيادة مليون دنم عن الأرض اليهودية آنذاك " وكانت تلك أكبر مساحة من الأرض يعرضها عربى على اليهود ". ولليهود حق الهجرة المفتوحة إلي ذلك الكانتون. ورفض بن جوريون الأقتراح لأنه رأى أن لايوجد عربى مسئول يؤيد هذا الاقتراح.
لكن أهم تطور حدث بعد حرب 1967 هو قيام حركة الفدائيين التي تحولت إلي حركة مقاومة شعبية، كسبت بسرعة انتباه الرأى العام العالمى، وتعاطف الأمة العربيةو التأييد الفاتر من بعض الحكومات العربية. وبعد ذلك بسبع سنوات، أقرت الأمم المتحدة بالحقوق الفلسطينية بشكل واضح لالبس فيه.
جاء في قرار الأمم المتحدة رقم 3236 الصادر في 1974/11/22 التأكيد على حقوق "الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف" ( لاحظ تعبير: الشعب الفلسطينى، الحقوق غير قابلة للتصرف) ومنها حقه في تقرير المصير، وحقه في الاستقلال الوطنى والسيادة، وحقه في العودة إلي أرضه التي طرد منها (عام 1948) وأن هذه الحقوق لابد تحقيقها لحل قضية فلسطين، وأن على الدول والهيئات الدولية تقديم العون للشعب الفلسطينى في كفاحه لاسترجاع هذه الحقوق.
كان هذا قراراً حاسماً واضحاً جمع كل الحقوق الفلسطينيةو أكد عليها. ولم تعد قضية اللاجئين بعد ذلك قضية أناس مشردين، فهم شعب له حقوق وعلى العالم واجب مساعدتهم ( بما في ذلك عسكرياً في نطاق ميثاق الأمم المتحدة).
انتهز بعض القانونيين الاسرائيليين فرصة صدور هذا القرار لللأنتقاص منه بالقول أن الحق "الفردى " في العودة قد سقط الآن بإقرار حق تقرير المصير وهو حق جماعي ينطبق على المناطق التي تبسط عليها الدولة الفلسطينية الجديدة سيادتها. وحيث أن هذه المناطق (إذا ما وقعت القيادة الفلسطينية على ذلك) هى اجزاء من الضفة وغزة، فإن العودة تكون إلي هذه المناطق، وليس إلي ديار اللاجئين الأصلية عام 1948.
ويرد خبير القانون الدولى جون كويجلى بأن غير صحيح، لأن حق العودة من حقوق الانسان التي لاتسقط بأى قرار سياسى. كما أن الأمم المتحدة استمرت في تأكيد القرار 194 حتى بعد تأكيد حق تقرير المصير، وبعد قرار 242 الخاص بإزالة آثار احتلال 1967، وبعد اتفاق اوسلوا. وقبل عام واحد في ديسمبر 1999، صدر القرار رقم 75/54 بحق اللاجئين في العودة إلي ديارهم، بل وحقهم في الدخل من ممتلكاتهم التي استغلت خلال 52 عاماً، وواجب كل الدول أن تقدم ما لديها من معلومات ووثائقو خرائط من هذه الممتلكات.
ابتداء من عام 1982 بدأ انحسار فعالية المقاومة الفلسطينية، واستمرت في تدهور حتى اليوم. واكن لايوجد دليل منطقى أو تاريخى أن هذا الأنحسار دائم. بعد هذا التاريخ أفرغت المقاومة من محتواها العسكرى. وتميزت المقاومة بعنصرين هامين متناقضين: (1) الحماس المنقطع النظير لمحاربة العدو والشجاعة المطلقة في مواجهته حتى في مواقف ميئوس منها والمدد الغزير للعناصر البشرية التي سقطت. كان المعنى والمحتوى للمقاومة الفلسطينية وما صاحبه من الصدى الشعبى والعالمى لها من أهم المكاسب التي حصل عليها الفلسطينيون، وهو ما عبرت عنه روزمارى صايغ في كتابها: " من فلاحين إلي ثوار ". لقد تميزّ هذا الصراع من أجل الوجود بشراسة المقاتلين عن أرضهم التي طردوا منها،و أرضهم هذه هى مثوى الأجداد ومصدر العيشو أمل المستقبل بالمعنى الحرفى للكلمة. لذلك لايمكن تجاهل الغياب غير النسبى من بين هؤلاء المقاتلين لابناء " العائلات العريقة " في المدن وعلى الأخص من كانوا يملكون أراضى واسعة في تلك القرى كمصدر للثراء وليس كموطن. وهذا ما أشار إليه ميرون بنفنستى عندما قارن بنوع من التشفى عن نسبة عدد المقاتلين من انباء العائلات العريقة عام 1948 بين العرب واليهود. (2) الإدارة العشوائية لحركة المقاومة التي كانت تتميز بعدم الكفاءةو العفوية في إتخاذ القرارات. وإن كان هذا مقبولاً من حركة شعبية خصوصاً في بدايتها إلا أنه غير مقبول بعد نضوج الحركة، وترحيب الشعوب العربية بها حيث تواجدت، (بجانب تأييد حذر من الحكومات)، والحصول على دعم مالى منقطع النظير لم يتوفر لأى حركة شعبية ( نستثنى حركة الاستيطان الصهيونى )، وتوفر قطاع بشرى هائل من الكفائات الفلسطينية التي لم تستغل بسبب تفضيل الولاء والطاعة على الكفاءةو الديموقراطية. لقد فشلت قيادة المقاومة فيما يسمى بإدارة الأزمات، وسببت خسائر بشرية غير مبررة للمقاتلينو المدنيين، وخسائر سياسية ومادية عظيمة القيمة. وبذلك فقدت المعركة بخسارة الفلسطينيين في الاردن ولبنان والكويت. والصحيح أن من الصعب على أى حركة مقاومة أن تعمل في بلد غير بلدها (حيث الشعب معها والحكومة ضدها علناً أو باطناً)، والصحيح أن المقاومة الفلسطينية ليست على المستوى العسكرى لاسرائيل بالمعنى التقليدى، لكن اداء المقاومة في الساحة العربية كان أقل كفاءة بكثير من الممكن. وكان اهتمامها بالإعلام وحشد التأييد أكثر بكثير من الحصول على مكاسب فعلية أو بناء مؤسسات فلسطينية كفئة لبناء المجتمع الفلسطينى اثناء الحرب وبعده.
هذه النبذة ضرورية لايضاح تأثير ذلك على حقوق اللاجئين. فعندما انتهى التأثير الايجابى للعنصر الأول: بسالة المقاومة من ناحية بشرية، بقى التأثير السلبى للعنصر الثانى: إدارة الأزمات. فما أن جاءت حرب الخليج بنتائجها المعروفة، ووجدت القيادة الفلسطينية أنها لاتملك القوة العسكرية، حتى بمعناها الشعبي، ولاتملك الدعم المالي الذى نضب بسبب مواقفها، ولاتملك المؤسسات الفلسطينية الكفئة التي تخلى عنها كثير من المخلصين أو هى تخلت عنهم، لم يبق لها من مصادر القوة شئ. ولذلك وقعت فريسة سهلة، بل فريسة راضية بالذهاب إلي قفص أوسلو. سعت اتفاقية أوسلو إلي إزالة القاعدة الوحيدة الباقية للحقوق الفلسطينية وهى الشرعية الدولية المتمثلة في المواثيق الدولية والقانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة.
وليس هناك أبلغ من مقدمة الاتفاقية للتدليل على ذلك: " تقر حكومة دولة اسرائيل والوفد الفلسطيني الذى يمثل الشعب الفلسطيني على أنه حان الوقت لإنهاء عقود من المواجهة والصراع، وللاعتراف بحقوقهم الشرعية والسياسية المتبادلة، والعمل الحثيث على التعايش بسلام وكرامة متبادلة وأمان وتحقيق تسوية سلام عادلة وشاملة ودائمة، ومصالحة تاريخية بواسطة العملية السياسية المتفق عليها ".
لقد أقر الطرف الفلسطيني مع نظيره الاسرائيلي في هذ القضية شطب المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة واستبدالها بما ينتج في تلك " العملية السياسية المتفق عليها " من طرفين أحدهما يملك القوة والأرض ولايملك القانون، والآخر لايملك القوة ويطالب بالأرض وتخلى عن القانون.
إذن ليس من المستغرب أن تؤول مفاوضات أوسلو وما تلاها من التفرعات والمسلسلات إلي ماهى عليه اليوم. وهذا ليس استناداً على دروس الماضى القريب، بل كان واضحاً لكثير من الناس عند إعلان اتفاقية أوسلو. وعلى سبيل المثال، أرسل كاتب هذا المقال إلي ياسر عرفات في الشهر التالى للتوقيع حول ذلك، فجاء الرد " إن هذا استجابة للمتغيرات الدولية ".
والسؤال الآن. ماهى قيمة اتفاقات أوسلو أو ما يتبعها على نفس القاعدة بالنسبة لحقوق اللاجئين في العودة والتعويض؟
الجواب هو أن الحق الفردى في العودة والتعويض لا يسقط في أى اتفاق سياسي ولاتجوز فيه النيابة سواء كانت معتمدة أم لا. أما الحق الجماعى فهو يخضع إلي السيادة التي منحت تطبيقاً لحق تقرير المصير في المناطق الخاضعة لتلك السيادة.
وحيث أن مواطن اللاجئين تقع في اسرائيل التي تعترف بها السلطة الفلسطينية، فإن اتفاق أوسلو لا يعنيهم في شيء. ولو أجبرت السلطة اللاجئين في مناطقها (وهذا غير متوقع، وغير ممكن) على قبول حل بالتنازل من حقوقهم، فهو غير قانونى بالطبع، وهو يترك 71% من اللاجئين الذين يعيشون خارج مناطق السلطة وخارج نفوذها أحرار.
بعد أوسلو، تكاثرت ظاهرة مشاريع التوطين، لأن هذا كان المناخ المناسب لنموها. وتزامنت هذه الظاهرة بنشوء ماسمى " بضاعة السلام " حيث تدعم جهات مختلفة بالمال والإعلام أفراداً ومؤسسات وجمعيات أهلية يدعون إلي السلام والواقعية بمعنى إسقاط الحقوق الأساسية والقبول بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وكما سبق ذكره فأنه هذه الإطروحات تعتمد على الإقرار بحق العودة كحق ثابت لاجدال فيه، إلا أن تطبيقه يخضع لصعوبات عملية وعليه يجب إسقاطه كلين.
ما هى هذه الصعوبات العملية؟ لم أجد في أبحاث هؤلاء الذين يسّوقون ذلك أية دراسة جدية لهذه الصعوبات.
يقولون أن القرى دمرت والحدود ضاعت ويصعب الآن إرجاع الوضع إلي ماكان عليه. لايوجد مثيل لفلسطين بين البلاد العربية في دقة التوثيق وشمولة، منذ حملة نابليون عام 1799 وخلال القرن التاسع عشر. أما خرائط الانتداب البريطاني فتحتوى على 000ر100 إسم لكل مكان وكرم وخلّة ومقام ومسجد وكنيسة ونهر وبئر ونبع. كما تحتوى على 000ر450 سجل لمالكى الأرض، لاتزال موجودة في الأمم المتحدة. وبواسطة التقنية الحديثة يمكن أسترجاع أصل كل دنم، كيف كان وما هو الأن. بل إن دائرة اسرائيل للاراضى تؤجر أراضى اللاجئين إلي الكيبوتس بموجب هذه المعلومات، ولديها تاريخ كل قطعة أرض. إذن هذه المقولة ليست مبنية على أساس.
ويقولون أيضاً أن البلاد لاتسع، فقد احتل اليهود المهاجرون كل بقعة منها.
لكن الدراسات الديموغرافيه تكذب ذلك.
يمكن تقسيم اسرائيل إلي 3 مناطق:
منطقة (أ) ومساحتها 683ر1 كم2 وتساوى مساحة الأرض اليهودية عام 1948 ويعيش فيها 68 % من اليهود منطقة (ب) ومساحتها 318ر1 كم 2 وتساوى تقريباً مساحة أرض الفلسطينيين الذى بقوا في اسرائيل، ويعيش فيها 10% من اليهود و20% من الفلسطينيين هناك. أى أن 78% من اليهود يعيشون في 14% من مساحة اسرائيل. (ولو أخذنا المناطق الحضرية (المدينية) فقط في اسرائيل لوجدنا أن مساحتها 364ر2 كم2 أو 11% من مساحة اسرائيل ويعيش فيها 90% من كافة السكان)
أما منطقة (ج) ومساحتها 325ر17 كم2 وهى وطن اللاجئين وإرثهم التاريخى، فيعيش فيها 22% من اليهود. منهم 19% يسكنون في مدن فلسطينية أصلاً ومدة " تطوير " جديدة لايزيد عدد سكان الواحدة عن سكان مخيم للاجئين. وهذا يعنى أن 000ر200 يهودى من سكان الكيبوتز هم الذين يستغلون كافة الأرض الفلسطينية. لكن نشاطهم الزراعى قد أصبح قليل القيمة، وترك الكثيرون منهم الزراعة وعادوا إلي المدن.
وباعتبارهم نخبة المجتمع، ونسبتهم في الجيش والكنيست إعلى من المعدل العام، تفرق عليهم الحكومة المساعدات والهبات. تستهلك الزراعة 75% من المياه في اسرائيل، وتوصل الحكومة هذه المياه إلي الكيبوتس بسعر أقل من سعر الانتاج، بل وتعوضهم مادياً إذا ما أضطرت لتقليل كمية مياه الرى، ومع ذلك، تنتج 26% من هذه المستعمرات معظم الأنتاج والباقى مفلس ومثقل بالديون. وقررت الحكومة إسقاط 5بليون دولار من ديون الكيبوتس بجدولة 2بليون، واعطاء معونة بمبلغ 2بليون من الحكومة وبليون واحد من القطاع الخاص. كل هذا الإسراف في استعمال الأرض والمياه، وكل هذا الدعم المالى، لم يساهم في التاريخ الاسرائيلى المحلى بأكثر من 8ر1% فقط.
وهكذا لو عاد اللاجئون إلى ديارهم فإن لا يتأثر أحد من اليهود عدا هذه الفئة. بل لو عاد اللاجئون في لبنان إلي الجليل، ولو عاد اللاجئون في غزة إلي اللواء الجنوبى، لما تأثرت كثافة السكان اليهود في الوسط بأكثر من 1%