لندن ـ «القدس العربي»: في سجل النكبة 530 اسما لقرية وبلدة ومدينة فلسطينية تعرضت للهدم أو التهجير.
عمل توثيقي وتأريخي موسوعي ضخم، جُمع في «أطلس فلسطين». وخلف هذا العمل، الذي يوثق النكبة، باحث ومؤرخ فلسطيني عاش النكبة التي أصابت أرضه، وأرض عائلته.
اليوم، بعمر 87 عاما، يبدو الدكتور سلمان أبو ستة، رئيس «هيئة أرض فلسطين» في لندن ومؤسسها، مرتبطا أكثر من أي وقت مضى بوعي النكبة، هذا الحدث المؤسس للوعي الوطني الفلسطيني.
يقول أبو ستة، في حواره مع «القدس العربي» إن ما حدث عام 1948 من تهجير للفلسطينيين من أرضهم هو سياسة إسرائيلية مستمرة ولم تتوقف، وما يجري في غزة من حرب إبادة ليس معزولا عن المنحى الإبادي الذي مارسه الاحتلال منذ البدء، أي محو الشعب الفلسطيني وأثره وتهجيره، ونكران تاريخه وثقافته.
وتضاف إلى قضايا الحوار مع أبو ستة، إضاءة على واقع قطاع غزة، المساحة التي جسدت فلسطين الحرة وبانتماء فلسطيني على الدوام، فقصة اقتطاع أجزاء واسعة من قطاع غزة، التي تلت النكبة، صارت منسية إلا عنده وهو يروي كيف ضاقت حدود القطاع من نحو 550 كلم على مساحته الحالية.
هنا نص الحوار:
• أود أن أبدأ بالسؤال عن «أطلس فلسطين» لأنك على مدى عقود طويلة منذ النكبة، نكبة فلسطين عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين قمت بجهد بحثي وتاريخي واسع ارتبط اسم «أطلس فلسطين» باسمك. هل لك أن تخبرنا كيف بدأ هذا الجهد البحثي؟ وما علاقته بتاريخ النكبة وتاريخك حيث كنت في فلسطين في ذلك الوقت؟
• بدأت هذا المشروع عندما كنت أدرس للدكتوراه في جامعة لندن. طبعا قررت أن أعرف الكثير من الوثائق عن وطني فلسطين في لندن باعتبار أن بريطانيا كانت الدولة المكلفة بالانتداب. وعندما بدأت أبحث في المؤسسات البريطانية خصوصا الجمعية الجغرافية الملكية، قالوا لي إنه لا توجد هناك فلسطين. ووجدت بعد ذلك أن الخرائط والوثائق عن فلسطين مسجلة باسم إسرائيل. طبعا نحن نعلم أن الاحتلال الصهيوني أخذ الوطن كله، وأخذ جميع الوثائق التي تتعلق بحكومة فلسطين بالكامل، بما فيها الملفات الحكومية والملفات الشخصية والمكتبات الشخصية وغير ذلك.
لم يبق لنا من النكبة إلا ذاكرتنا وتجاربنا وما مررنا به، ولكن هذا لا يكفي، ولا بد أن يكون لدينا وثائق كاملة عن الوطن لكي نجابه العدو في الخارج، أمام الأمم المتحدة وأمام العالم. وينهض السؤال: ماذا تعرف عن فلسطين؟ بدأت هذه الرحلة الطويلة، وعلى مدى ثلاثين عاما جمعت الكثير من الوثائق في بريطانيا، وهي كثيرة وفي عدة أماكن. وأيضا في ألمانيا، هناك سجل الأرشيف الألماني عن الحرب العالمية الأولى، فيه أول صور جوية لفلسطين. وكذلك في المكتبة الوطنية في باريس. وطبعا في مكتبة الأمم المتحدة التي توجد فيها وثائق كثيرة جدا. وأيضا في مكتبة الكونغرس في واشنطن. ثم الأرشيف العثماني وفيه وثائق كذلك. عندما جمعنا هذه الوثائق كلها على مدى السنوات، كان لا بد طبعا من دراستها وتسجيلها وغير ذلك.
وأسست عام ألفين «هيئة أرض فلسطين» في لندن لتتكفل بهذا المشروع كمؤسسة يعمل فيها معي بعض المتطوعين والباحثين.
وفي عام ألفين وتسعة عشر أسست «مركز دراسات فلسطين» في الجامعة الأمريكية في بيروت رديفا لمؤسسة فلسطين في لندن، ووضعنا فيه عشرة آلاف وثيقة من فلسطين. هذا هو الجزء الأول من العمل وهو التوثيق، ولكن هناك أعمال أخرى تلي ذلك.
الاقتطاع
• قطاع غزة يشهد اليوم حربا وحشية إسرائيلية بكل المقاييس. هذا القطاع، الذي تبلغ مساحته اليوم كما يقال نحو ثلاثمئة وخمسين كيلومترا مربعا، ولكنك ذكرت في أكثر من مناسبة أن القطاع بعد نكبة فلسطين مباشرة، واتفاقيات الهدنة، لم يكن بالمساحة التي هو عليه فيها الآن. كيف حصل هذا؟
• نعم قطاع غزة يتميز بأشياء كثيرة نعرفها اليوم، ولكن تاريخيا هو المنطقة الوحيدة في فلسطين التي تزيد قليلا عن واحد في المئة من فلسطين وبقيت تحمل اسم فلسطين وعلم فلسطين. باقي فلسطين إما أصبحت تحت الاحتلال الصهيوني، أو التحقت بالمملكة الأردنية الهاشمية، لكن غزة بقيت تحمل همّ فلسطين، وفيها أولى الحركات السياسية، ومقاومة بدأت فيها مع الفدائيين عام ألف وتسعمئة وخمسين، وكذلك حركات تجمع اللاجئين. وأول مجلس تشريعي للفلسطينيين قام في غزة ألف وتسعمئة وستين. لكن عندما نأتي لهذه المساحة التي ذكرت، ثلاثمئة وخمسة وستين كيلو مترا مربعا، نجد أنه حتى هذه البقعة الصغيرة، قضمت إسرائيل منها مئتي كيلومتر مربع.
سلمان ابو ستة خلال مداخلته امام مؤتمر فلسطين في برلين الشهر الفائت
والذي حدث أنه في 24 شباط/ فبراير سنة ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين، وقعت اتفاقية الهدنة مع مصر. حصل التوقيع وسُجل في الأمم المتحدة. كان رالف بنش هو الأمين العام المساعد. وعندما اطلعت على الوثائق الأصلية لاتفاقية الهدنة، وجدت أن الحدود الحالية لا تمت بصلة للاتفاقية الأصلية. والاتفاقية الأصلية تشمل مساحة حوالي خمسمئة وخمسين كيلومترا مربعا. يعني مقارنة مع الوضع الحالي نقص القطاع بنحو مئتي كيلومتر مربع. لماذا؟ اكتشفنا أنه بعد سنة من توقيع هذه الاتفاقية بالضبط في شباط/ فبراير عام 1950 احتجت إسرائيل لدى اللجنة المشتركة مع مصر بأن هناك مشاغبات كثيرة على الحدود، وأن كثيراً من اللاجئين يعودون، وأن هذا يسبب إشكالات واشتباكات، مع أنه طبعا يحق للاجئين العودة إلى ديارهم.
المهم، اتفقوا في لجنة الهدنة المصرية الإسرائيلية المشتركة على اقتطاع جزء من القطاع بشكل مؤقت كي يكون منطقة عازلة. فوقعوا اتفاقية سرية اسمها اتفاقية «موديس فيفندي» أو اتفاقية تعايش، وأودعت في الأمم المتحدة من دون علم الشعب الفلسطيني ومن دون علم الشعب المصري أيضاً.
وإمعانا في السرية وقعت الاتفاقية في العوجة، ولم توقع في قطاع غزة، لأنه كما تعلمون العوجة فيها أيضا منطقة عازلة معزولة السلاح مساحتها مئة وخمسة وستين كيلومترا مربعا، فذهبوا إلى العوجة لأن لها اسما آخر، ووقعوا في السر. وهذه الاتفاقية مكتوب فيها بصراحة أنها مؤقتة لإزالة الاشتباكات والمناوشات، ولا تعني إطلاقا إلغاء الاتفاقية الأصلية. ولكن من العجيب أنه لم تقم دولة عربية، لا مصر، ولا منظمة التحرير، بالمطالبة بالعودة إلى خط الهدنة الأصلي. ونحن نعلم جميعا أن خط الهدنة هو خط وقف القوات العسكرية، وأن ليس له أي معنى قانوني، ولا يعني إطلاقا أن الأرض على يمينه أو يساره تحت سيطرة الدولة المحتلة أو غير ذلك. ربما كان الشعور، وهو خاطئ طبعا، أن هذا الخط وهمي أصلا، ولذلك ليس هناك مجال للمطالبة بتحريكه، لأنه مفروض أن تنسحب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها.
وبالمناسبة، كانت إسرائيل عند نهاية الانتداب تحتل بتواطؤ مع الإنكليز ستة في المئة من مساحة فلسطين، وعند توقيع الهدنة مع الدول العربية أصبحت تسيطر على ثمانية وسبعين في المئة من فلسطين، بسبب خذلان وهزيمة العرب، والسيطرة الصهيونية على باقي فلسطين وإلى يومنا هذا.
لا يوجد أي مسوغ قانوني لإسرائيل لاحتلال هذه المنطقة، لأنه كما قلت، خط الهدنة لا يعتبر حدودا، وإسرائيل نفسها لم تعيّن لنفسها حدوداً.
• بهذا المعنى، إذا أردنا أن نبقى في غزة، هل هذا يعني أن عدداً من مستوطنات ما يعرف بغلاف غزة واقعة عمليا في أرض قطاع غزة بعد نكبة فلسطين مباشرة، أي قبل الاقتطاعات التي حدثت؟
• نعم تماما. وأنا أعرف هذا معرفة شخصية، وليس معرفة جغرافية وقانونية فحسب. المنطقة المقتطعة من قطاع غزة (200 كلم مربع) توجد فيها مستوطنات نيريم، ونور عوز وماغن وعين هشلوشة التي نسمع أسماءها كثيرا، وأيضا الأخرى القريبة من غزة. كل هذه المستوطنات في المنطقة كان يجب أن تكون حسب اتفاقية الهدنة في قطاع غزة. بمعنى ذلك أنهم اعتدوا على قطاع غزة مرتين.
وأريد أن أضيف شيئا. هذه المستوطنات الأربعة تقع في أرضي. أرض بلادي، أرض عائلتي. المعين أبو ستة التي تمتد على مساحة ستين ألف دونم.
بعد هدنة 1949وُقعت اتفاقية مؤقتة لإنشاء منطقة عازلة، كرّسها الاحتلال بعد ذلك مقتطعا نحو 200 كلم مربع من مساحة غزة
ولدت على أرض بني عليها كيبوتس نيريم، وتبعد أقل من ثلاث كيلومترات من خط الفاصل الحالي. هذا يعني أنها جريمة مركبة من كل النواحي.
• يعني هذا أن هذه الأرض، باعتراف وثائق الأمم المتحدة خصوصا المذكرة التي أشرت إليها، والتي لا تعتبر اتفاقية جديدة وإنما ترتيبات مؤقتة، هذه الأرض باعتراف القانون الدولي هي أرض محتلة، أرض فلسطينية محتلة في نظر القانون الدولي؟
• نعم، وطبعا ليست هذه الأرض هي فقط المحتلة. كل فلسطين محتلة، لأنه لا يوجد مسوغ قانوني لإسرائيل واحتلال ثمانية وسبعين في المئة من أرض فلسطين إلا بالقوة العسكرية. لكن، حتى لو نظرنا إلى التفاصيل القانونية، أي المئتي كيلومتر مربع المغتصبة من قطاع غزة، فالمفروض أن تكون جزءا من قطاع غزة. الاحتلال الإسرائيلي حدث مرتين. الغريب في الموضوع أنه لم تعترض دولة عربية، لا مصر ولا أي جهة فلسطينية، على مدى السنوات السابقة.
الاتفاقية تصنف بأنها مؤقتة ولا تلغي الاتفاقية الأصلية. وبالمناسبة، لجنة الهدنة المشتركة التي تعرف بهذا الكلام، لا تزال نظريا موجودة، ولكن مصر مثلا لم تحتج على ذلك، وعندما ظهر كيان قانوني لمنظمة التحرير، لم تحتج أيضاً باعتبار أن فلسطين كلها أرض محتلة. ولكن الأولى بمصر أن تقول إن هذا ليس هو خط الهدنة المتفق عليه، وإن إسرائيل يجب أن ترجع وهذا أضعف الإيمان.
• اليوم نرى مخططات للاحتلال الإسرائيلي يتحدث عنها فيما يسمى اليوم التالي، وفي الوقت نفسه فيما يجري على الأرض عمليا… هنالك اقتطاعات جديدة بحجة تأمين الاحتلال منطقة عازلة أو فاصلة يتم تشكيلها حول قطاع غزة. هل تتخوف من عملية اقتطاع جديدة من أرض قطاع غزة تشبه ما حصل في السابق؟
• تماما، والخوف كبير جدا أن يختفي قطاع غزة كله، لأنه كما قلت هو البقعة الوحيدة التي بقيت تحمل اسم فلسطين، وهو شوكة في حلق إسرائيل، وكل المحاولات الإسرائيلية اليوم، والتهديد بدخول رفح، كلها تمهيد لإزالة قطاع غزة بالكامل من أهله، وإن بقي فيه أحد فسيكون في معسكر اعتقال كبير يتناقص عدد سكانه إلى عدد قليل جدا، وليس لهم حيثية إطلاقا. وما نراه في الأخبار من تباطؤ وتلكؤ (رئيس وزراء الاحتلال بنيامين) نتنياهو في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، الغرض منه أنه يريد أن يختفي قطاع غزة بالكامل، وأن تسيطر إسرائيل على ما تبقى من هذه الأرض، وطبعا يتبع ذلك أشياء أخرى مثل الغاز والبترول التابع لفلسطين.
عقلية الاحتلال
• لقد رصدتَ عملية الاستيلاء على الأرض وعلى القرى والبلدات والمدن الفلسطينية منذ النكبة، وما قبل النكبة، وعلى مر هذه السنوات هل تغيرت العقلية التي تتحكم بالاحتلال؟ هل يمكن أن نرى فرقا اليوم مع العقلية الحاكمة في إسرائيل من خلال حكومة بنيامين نتنياهو والتيارات والأحزاب التي تشكله، وعقلية الاستيطان الإسرائيلي في الماضي؟
• لم يتغير موقف الاحتلال الصهيوني في فلسطين في أهدافه على الإطلاق، كل ما تغير هو طريقة عرضه على العالم الغربي، وهذا يعني الأسلوب الذي يظهر به هذا الاحتلال. وحرب الإبادة في غزة أكبر شاهد على ذلك.
مقام الشيخ نوران في أرض المعين أبو ستة
ولكن عندما نرجع إلى التاريخ، نجد أن هذا جزء من الأيديولوجية الصهيونية بكاملها. تذكرون جميعا أنه في القرن التاسع عشر روجت الصهيونية مقولة أو خرافة أن فلسطين أرض بلا شعب. طبعا يعلمون تماما، والغرب يعرف، لأنه كانت هناك دراسات كثيرة، أن فلسطين فيها شعب. ولكن اتضح لي ولغيري أن هذه الخرافة هي عبارة عن خطة لتحويل فلسطين فعلا إلى أرض بلا شعب، وإزالة الشعب الفلسطيني. إجابة على سؤالك. لم يتغير الأسلوب والخطة الصهيونية إطلاقا، إنما تغيرت طريقة عرضها على العالم، وبشكل يكون مقبولا في الدعاية الغربية. والغرض من ذلك تبرير السيطرة على كل فلسطين. والآن كشفوا أوراقهم بالكامل. ليس هناك متطرفون وغير متطرفين. إذا كنت صهيونياً فمعنى ذلك أن هدفك القضاء على فلسطين والفلسطينيين. الجديد في الموضوع أن القضية وصلت إلى أبعاد عالمية لم تكن موجودة سابقا، يعني عندما كنت طفلا في العاشرة من عمري خلال النكبة لم يكن يعلم أحد في الغرب عما حدث لنا من تهجير 530 مدينة وقرية.
اليوم بجهاز الهاتف المحمول، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وغير ذلك، حدثت ثورة إعلامية كبيرة جدا في مئة وعشرين جامعة أمريكية وفي دول غربية أخرى، وانكشف وجه إسرائيل تماما.
أتمنى أن يستمر التيار الطلابي في أمريكا الذي وصفوه بأنه الجيش الأخلاقي، ويتحول إلى قوانين في أمريكا وفي أوروبا.
كما تعلمون حضر 900 شرطي إلى المؤتمر الذي شاركت فيه في برلين في 12 نيسان/ إبريل الماضي، لكي يقطعوا الكهرباء عن المؤتمر، ويمنعوا الكلام فيه عن تجاربنا كفلسطينيين في فلسطين. لم يتغير الخط الصهيوني، ولكن وسائلهم تغيرت وطرق متابعتهم لهذا المشروع تغيرت، وكذلك دورنا نحن في مجابهة هذا المشروع. ويؤسفني أن أقول إن الشعب الفلسطيني الآن وحده، ومعه مناصرون من العالم، وليس الحكومات العربية.
• تابعتَ عملية مصادرة واحتلال القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، هل هذه العملية كانت محصورة في فترة زمنية محددة خلال النكبة أو قبلها أو أنها عملية ممتدة عبر السنوات؟
• إنها طبعا عملية ممتدة على مدى سنوات كثيرة. نحن نسمي عام ثمانية وأربعين عام التهجير العرقي، أي طرد الناس من ديارهم، والاستيلاء على هذه الديار. ولكن عندما نراجع تاريخ الصهيونية، وحربها علينا، نجد أنها لم تتوقف عن مهاجمة هؤلاء اللاجئين في أماكن وجودهم. إسرائيل لم تتوقف عن مهاجمة قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية، ومخيمات لبنان والأردن.
أي أنهم طردوا هؤلاء الذين طردوا من ديارهم، حيث هم، سواء في فلسطين أو في البلاد العربية المختلفة، وأيضا اغتالوا قادتهم في أوروبا. إذن، الحرب التي شنتها إسرائيل تحولت من تهجير عرقي، أي إزالة الناس من ديارهم، إلى مطاردة في كل مكان، إلى حرب إبادة واضحة كما هو اليوم. وهذا مثال لا يوجد له سابق في تاريخ الاستعمار الغربي في العالم، لا في كندا ولا في أستراليا ولا في جنوب أفريقيا. كانوا يكتفون بأخذ الأرض وبقاء السكان. أما إسرائيل فتأخذ الأرض، وتطارد أهلها في كل مكان، في فلسطين وخارج فلسطين، وهذا هو المعنى الحقيقي للإبادة الشعبية هنا.
محو الأثر
• تحدثتَ عن طرد السكان الفلسطينيين، عدا عن الشق المادي المتمثل بطرد السكان وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، ماذا فعل الاحتلال على مستوى محو الأثر؟ الأثر الثقافي والتاريخ والرواية الفلسطينية المرتبطة بالمكان؟
• اشكرك على هذا السؤال. يفكر كثير من الناس أنهم أخذوا الأرض وطردوا الناس. لا، لا، لا، لا. هذه محاولة لتنفيذ الخرافة، أي فلسطين أرض بلا شعب. يعني أنه لا تاريخ لها ولا جغرافيا. فإسرائيل شنت علينا 12 نوعا من الحروب. حروب عسكرية وحروب تاريخية وحروب جغرافية وحروب أيديولوجية وحروب اقتصادية وحروب سياسية وحروب من كل نوع. يريدون إزالة أي أثر لهذا الشعب في كل المستويات. ولم يوقفوا هذا المشروع إلى يومنا هذا. سعوا الى أن يحولوا أسماءهم إلى أسماء تناسب تاريخ فلسطين، وملابسهم… هذه أكبر عملية خداع في التاريخ، ولا أعتقد أنها ستنجح إطلاقا، عندما نجد شاباً أو شابة في جامعات ييل وهارفارد يلبسون الكوفية، الكوفية صارت شعاراً للحرية في العالم. هذا الإجرام الصهيوني ليس له مثيل.
• إذا أردنا أن نعود بالذاكرة إلى المرحلة التي كنت فيها في فلسطين خلال النكبة وقبلها، ماذا يمكن أن تخبرنا عن حياتك كطفل فلسطيني ترعرع في فلسطين قبل أن يقضي الاحتلال على أي كيان أو فرصة لحياة فلسطينية طبيعية؟
• هذا هو الجزء من المذكرات التي كتبتها. هجموا علينا في 14 أيار/ مايو عام 1948 في أربع وعشرين مصفحة. كنا ندافع عن أنفسنا كشعب، وكان لدينا حوالي خمس عشرة بندقية. وطبعا حاولنا المقاومة، ولكن سيطرت القوات الصهيونية على أرضنا المعين أبو ستة البالغة مساحتها ستين ألف دونم. ودمرت المدرسة التي بناها والدي عام 1920. ودمرت البيارة والمطحنة والبئر، وحرقوا كل البيوت، وقتلوا كل من شاهدوه يقاوم أو حتى مارا في الشارع. هذه المأساة حدثت يوم 15 أيار/مايو 1948. بعد ظهر هذا اليوم بالذات اجتمع بن غوريون مع مجموعته من المستوطنين في مجلسهم، وأعلنوا قيام دولة إسرائيل، وفي هذا اليوم أيضا أصبحت لاجئا. حياتنا قبل ذلك كانت بسيطة، قاومنا الإنكليز عام 1936، وفي قضاء بئر السبع طردنا الإنكليز لمدة سنة كاملة.
• هنالك حرب على غزة، في الوقت نفسه هنالك حرب يخوضها المستوطنون والاحتلال في الضفة الغربية المحتلة ويكاد وزراء حكومة نتنياهو لا يخفون نيتهم في التهجير، تهجير السكان الفلسطينيين تحت شعارات مثل الهجرة الطوعية وغير ذلك. هل تخشى من نكبة جديدة تهجر الفلسطينيين من أرضهم في الضفة الغربية وفي غزة؟
• هذا خطر حقيقي وواقعي يعملون بكل وسيلة ممكنة لتنفيذه. لم يغيّروا خطتهم، الفرق الوحيد أنهم أعلنوها. وكل ما يقوم به الغرب هو القول لهم لا تكثروا من المستوطنات، ويعاقبون بعض الأشخاص. إسرائيل كيان قائم تماما على إزالة الشعب الفلسطيني واحتلاله (..) عندما وضعت خطة العودة ذكرت أن جميع الفلسطينيين يستطيعون العودة إلى ديارهم من دون إزاحة عدد كبير من اليهود إذا بقوا كمواطنين. ونشرنا ذلك في العالم كله، مبدا يقوم على شرط أساسي ألا توجد الصهيونية… ولا شك عندي أنه لا يمكن أن يتم السلام إلا بعودة فلسطين إلى أصحابها وبإزالة الصهيونية.