من العلامات المميزة للمشروع الصهيوني في فلسطين أن لديه مبادئ ثابتة لم تتغير منذ القرن التاسع عشر. بالطبع تغيّرت الوسائل وتغيّر الحلفاء وتغيرت الأعذار والمسببات التي تسوقها الصهيونية لتقنع الأصدقاء والأعداء بجدارتها، لكن المبادئ بقيت كما هي. هذه المبادئ الثابتة ثلاثة هي:
- الاستيلاء على أرض فلسطين.
- طرد أهلها والتخلص منهم إلي أبعد مكان وتهميش القلة الباقية.
- طمس تاريخ وجغرافية الشعب الفلسطيني وإنكار وجوده وهويته
نجحت الصهيونية في الاستيلاء على أرض فلسطين عامي 1948 و1967، وطمست في كتبها وعلى خرائطها تاريخ وجغرافية فلسطين. لكنها وإن طردت ثلثي الشعب الفلسطيني من دياره، وبقي الثلث الأخير تحت حكم إسرائيل المباشر أو تحت الاحتلال، إلا أن 88% من الفلسطينيين لا يزالون على أرض فلسطين (46%) أو على طوق حولها في الأقطار العربية المجاورة (42%).
لم يستطع النفي إبعادهم عن أرض الوطن، بل إن كثيراً منهم متواجدون على خط الهدنة وعلى الحدود الشمالية والشرقية، يرون قراهم أو مواقعها رأي العين.
لقد أقلق هذا الوضع إسرائيل كثيراً، فلم تزل منذ إقامتها على أرض فلسطين تلجأ إلي الحروب والغارات، مستهدفة اللاجئين الفلسطينيين، وبعد احتلال الضفة وغزة تلجأ إلى القهر والاعتقال والمداهمة والحصار. وهدف هذا كله إكمال عملية التنظيف العرقي التي بدأت عام 1948 ولازالت مستمرة إلى اليوم.
يعرّف أحد خبراء القانون الدولي التنظيف العرقي بالآتي:
"التنظيف العرقي هو سياسة محددة المعالم لجماعة معينة لكي تزيل جماعة أخرى بشكل منظم من رقعة من الأرض على أساس الدين أو العرق أو القومية. وهذه السياسة تلجأ إلي العنف وغالباً ما تكون متصلة بعمليات عسكرية. ويجري تنفيذ هذه السياسة بكل الوسائل الممكنة من التمييز إلى الإبادة وتشمل انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني" أو تقديرات أخرى للباحثين.
ويعتبر التنظيف العرقي في القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية حسب المبدأ السادس لميثاق نرمبرج وحسب ميثاق روما لعام 1998 الذي أنشأ محكمة الجرائم الدولية (المادة السابعة). كما أن المذابح وتدمير الممتلكات دون حاجة عسكرية والنهب وقتل الرهائن وسوء المعاملة والترحيل إلى معسكرات عمل بالسخرة تعتبر جرائم حرب حسب ميثاق نرمبرج، وترحيل السكان جريمة حرب حسب محكمة الجرائم الدولية (المادة الثامنة).
وهذه كلها جرائم اقترفتها إسرائيل وهي جرائم لا تسقط بالتقادم، ولذلك يتوجب محاسبة المسئولين عنها من أصغر جندي إلى رئيس الدولة، كما أنه للمتضررين من هذه الجرائم الحق في التعويض المناسب عن الخسائر والأضرار المعنوية والمادية التي لحقت بهم.
وأهم الوسائل الناجعة وأولها لإزالة آثار جريمة التنظيف العرقي هو عكسها بعودة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم عن خسائرهم ومعاناتهم. كما هو معلوم فإن حق العودة للذين خرجوا من ديارهم أن يعودوا إليها متى شاءوا هو حق مكفول في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" وفي جميع المواثيق التي تكفل الحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية، الدولية منها، والإقليمية مثل تلك الأوربية والأمريكية والأفريقية وغيرها. وهو حق غير قابل للتصرف، أي أنه لا يسقط بالتقادم ولا يسقط بعقد اتفاقية أو معاهدة أو مقايضة.
وفيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، فإن قرار 194 الشهير الصادر في 1948/12/11 والقاضي بعودة اللاجئين إلى ديارهم أكده المجتمع الدولي أكثر من 130 مرة منذ عام 1948 إلى اليوم، وهو أمر لا نظير له في تاريخ الأمم المتحدة. كما أكدته أيضاً جمعيات أهلية مرموقة تدافع عن حقوق الإنسان مثل جمعية العفو الدولية وجمعية مراقبة حقوق الإنسان.
ومن الملفت للنظر أن قرار 194 جاء بعد يوم واحد من إقرار "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي أقرته الأمم المتحدة في 1948/12/10. كما أن الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة الذي أغتاله الإرهابيون الصهاينة في 1948/9/17 أكد في تقريره الأخير للأمم المتحدة على حق اللاجئين في العودة، فهو لم يقترح أو يستحسن عودة اللاجئين وإنما "أكد" على ضرورة تطبيق هذا الحق الموجود أصلاً في القانون الدولي. وتقريره هذا كان المادة التي استقى منها قرار 194 عباراته والذي سمي فيما بعد بوصيته الأخيرة.
وعليه فإن إسرائيل اقترفت جريمة حرب بطرد اللاجئين من ديارهم في أكبر عملية تنظيف عرقي في التاريخ الحديث، كما أنها اقترفت، ولا تزال، جريمة حرب أخرى بمنع عودة اللاجئين، مهما كانت أسباب مغادرتهم ومهما كان دور إسرائيل فيها، ذلك لأن هذا تكريس لعملية التنظيف العرقي والاستمرار فيها.
أما أبعاد عملية التنظيف العرقي عام 1948 فهي هائلة، إذ أصبح أهالي 675 مدينة وقرية لاجئين يشكلون اليوم ثلثي الشعب الفلسطيني، وهي أكبر نسبة مر بها شعب في محنة مماثلة. كما أن أراضيهم تمثل 93% من مساحة إسرائيل، إذ أن الصهاينة لم يتمكنوا حتى بمساعدة الانتداب البريطاني من الاستحواذ على أكثر من 5.5% من مساحة فلسطين أو 7% من مساحة إسرائيل.
ولا تزال إسرائيل إلى اليوم ترفض عودة اللاجئين وتمنع عودتهم عسكرياً وسياسياً، بل وتدعو إلى تكريس الجريمة التي اقترفتها ضدهم باستنباط مشاريع لتوطينهم في أي مكان في العالم عدا وطنهم، أي إبقائهم في المنفي إلي الأبد.
إذن فالتوطين مرتبط ارتباطاً وثيقاً بجريمة التنظيف العرقي وجريمة منع عودة اللاجئين. كما أنه يؤكد سبق الإصرار والنية المستقرة في تنفيذ تلك الجريمة بشكل مستمر.
والدلائل على وجود هذه النية في اقتراف الجريمة ثابتة بما لا يدع مجالاً للشك، وهي سابقة على عام النكبة بما يقرب من قرن على الأقل.
وإذا تركنا جانباً مشاريع نابليون في غزوته لمصر (1798 – 1801) لإنشاء إمبراطورية في الشرق ودولة يهودية في فلسطين، ومحاولات الجواسيس والمتعصبين لاستكشاف البلاد وإقامة مستعمرات عليها، فإننا نجد قوة دافعة جديدة لاستعمار فلسطين في إنشاء صندوق اكتشاف فلسطين عام 1865.
في هذا العام أنشئ الصندوق برعاية الملكة فكتوريا، وأعضاؤه من القساوسة وعلماء الدين والشخصيات الهامة، وغرضه استكشاف الأرض المقدسة والإثبات التاريخي والجغرافي للكتاب المقدس. لكن الجماعات اليهودية التي رأت في القرن التاسع عشر العصر الذهبي للاستعمار الأوربي في آسيا وأفريقيا، تؤيدها في ذلك الجماعات المسيحية الأوربية التي تؤمن بأن "الرجل الأبيض" عليه عبء استعمار البلاد المتخلفة، استغلت الارتباط المسيحي بالأرض المقدسة وقدمت نفسها على أنها محررة هذه الأرض لصالح أوربا واليهود في مشروع مشترك لصالح الطرفين.
لذلك نجد في دوريات صندوق اكتشاف فلسطين مقالات حول "استعمار فلسطين"و "استرجاع فلسطين" من متعاطفين مع المشروع الاستعماري اليهودي ونقلاً عن جريدة "Jewish Chronicle"
كانت الأرضية قد مهدت لهذا المشروع، ولذلك عندما أجتمع دهاقنة الاستعمار الصهيوني بعد ذلك بعقد أو عقدين من الزمان في بازل عام 1897، لم يجد هرتزل صعوبة في الحصول على إجماع الزعامات اليهودية على استعمار فلسطين. وقد تنبأ بإقامة دولة لليهود (Judenstaat)، وليس "دولة يهودية"، خلال نصف قرن. وقد كان.
على أنه كان يعلم تماماً أن هذا لن يتم دون طرد أهالي البلاد، وتسهيل توطينهم في بلاد أخرى. وكانت خطته تقضي بالاتي: "سوف ندفع بالسكان المعدمين عبر الحدود ونوفر لهم عملاً في بلاد العبور وفي نفس الوقت نمنع تشغيلهم في بلادنا".
وجاء وعد بلفور الذي وضع، لأول مرة في تاريخ الاستعمار الأوربي، خطة مرصودة واضحة بحماية حكومة الانتداب البريطانية للقيام بعملية التنظيف العرقي في فلسطين لإجلاء أهلها عنها. ولم يكن أحد بالسذاجة ليعتقد أن أنشاء "وطن قومي لليهود" لا يعني طرد أهل البلاد وإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين. واليوم لدينا من الوثائق ما يكفي لكشف المستور الذي يخفي ما وراء البيانات الرسمية البريطانية الموجهة للعرب، وما يعني ذلك من الاستخفاف الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني العربي واعتباره "مجموعة من القبائل السوداء المتخلفة التي ليس لها وطن ثابت".
وتبين الوثائق الجديدة أن فصل انتداب فلسطين عن انتداب شرق الأردن عام 1922، لإنشاء إمارة شرق الأردن، ما هو إلا وسيلة إلا لإيجاد مستودع أو مأوي ليودع فيه الفلسطينيون المطرودون من ديارهم في فلسطين.
على أن نجاح الصهاينة، بالتحالف مع بريطانيا، في إدراج وعد بلفور لمليونير يهودي ضمن بنود وثيقة الانتداب، وموافقة "عصبة الأمم" عليه، أضفى شرعية استعمارية أوربية على التنظيف العرقي لفلسطين، وأصبح من واجب حكومة الانتداب تسهيل الهجرة اليهودية و"الاستيطان الكثيف لليهود" في كل جزء ممكن من فلسطين، ولذلك عن طريق تشريع جديد لقوانين الأراضي التي تلغي القانون العثماني وتسمح لليهود بالتملك أو الاستئجار أو "إصلاح" الأراضي الواقعة تحت سلطة الحكومة، والتي بدورها حاولت انتزاع أكبر مساحة من الأراضي التي زرعها الفلاحون وامتلكوها بحكم العرف والعادة دون وجود أوراق عثمانية رسمية.
ورغم هذه الجهود فلم يتمكن الصهاينة من الاستحواذ إلا على 5.5% من مساحة فلسطين في نهاية الانتداب. على أن الضرر الأكبر الذي ألحقته بريطانيا بفلسطين هو السماح بهجرة يهودية "شرعية" وأخرى غير شرعية مما أدي إلى تضاعف عدد المهاجرين عدة مرات في منتصف الثلاثينات من 60 ألف إلى 400 ألف. وهذا أطلق الرصاصة الأولي لثورة 1936.
وجاءت اللجنة الملكية برئاسة اللورد بيل (Peel) للتحقيق في الأوضاع المضطربة، فأقنعها الصهاينة بأن واقع الأعداد الكبيرة من اليهود يستدعي أن تكون لهم دولة منفصلة، فأوصت اللجنة بإنشاء دولة يهودية على رقعة صغيرة من الأرض مركزها تل أبيب – يافا، وتضمن ذلك إجلاء العرب من ديارهم، ما سمي تلطفاً باسم "تبادل السكان" بين العرب واليهود. وحيث أنه لا يوجد عدد ذو شأن من اليهود في المناطق العربية الباقية، وتواجدهم بكثرة في المناطق اليهودية فقط، أصبح تعبير "تبادل السكان" يعني تطبيق التنظيف العرقي بإجلاء العرب الفلسطينيين عن ديارهم لصالح اليهود.
وخلال الثلاثينات وأواخر العشرينات من القرن الماضي، سعي الصهاينة سعياً حثيثاً إلى نقل الفلسطينيين إلى خارج فلسطين، فأرسلوا بعثة مساحية بها خبراء في الهجرة والزراعة والعمل والصحة العامة إلى فلسطين لمعرفة أحوالها. واجتمع عدد من أغنياء اليهود في نيويورك، وعلى رأسهم ادوارد نورمان، وأرسلوا مبعوثين إلى العراق محملين بالأموال الطائلة لرشوة قادتها. وكانت الخطة التي قدمها الصهاينة للعراق هي في ظاهرها مشاريع استصلاح للأراضي وتطوير مشاريع الري فيها، يمولها مستثمرون دوليون. وقابل وايزمان في الإسكندرية توفيق السويدي وزير خارجية العراق وسلمه مبالغ مالية على دفعات مقابل تسهيل نقل الفلسطينيين إلي العراق. ولم تفلح الخطة بسبب اضطرابات في العراق غيرت مجري الأمور.
وحاول اليهود إغراء جون فليبي مستشار الملك عبد العزيز آل سعود عند اجتماع وايزمان وشرتوك به في أكتوبر 1939، بمساعدة من بلانش بلفور، بنت أخ بلفور، بإقناع الملك عبد العزيز بنقل "كل العرب" في فلسطين إلى السعودية مقابل دعم الصهيونية لابن سعود ليكون زعيماً للعرب كافة مع دفع 20 مليون جنيه استرليني نفقات المشروع.
على أن أهم شخصية صهيونية مارست الاستيلاء على الأرض وطرد السكان في فلسطين هي يوسف وايتز (Weitz) المسئول البارز عن الأراضي في الصندوق القومي اليهودي (JNF – KKL) من بداية الحرب العالمية الثانية حتى الخمسينات من القرن الماضي. وكان رئيساً لعدة لجان تمارس الترحيل والطرد، خصوصاً عام النكبة وما بعدها. وكان يشرف إشرافاً مباشراً على توجيه القوات الإسرائيلية إلى احتلال الأراضي المرغوبة، وعلى طرد الأهالي ومنع عودتهم وتدمير القرى كوسيلة رادعة. وهذه الأعمال كلها تؤهله لمكان مميز بين مجرمي الحرب حسب القانون الدولي.
وقد سنحت الفرصة لإتمام عملية التنظيف العرقي في معظم فلسطين عام النكبة (1948). وبنجاح القوات الصهيونية (التي أصبحت تسمي الآن جيش إسرائيل) في احتلال 78% من فلسطين، تمكنت من طرد أهالي 675 مدينة وقرية من ديارهم، وذلك باقتراف 71 مجزرة على الأقل ومثلها من الفظائع في بداية كل عملية عسكرية لاحتلال منطقة في فلسطين. وهكذا أقيمت إسرائيل على أرض تملك اليهود فيها 7% أثناء الانتداب، ويملك الفلسطينيون فيها 93%، وهم الذين طردوا من ديارهم وأصبحوا لاجئين. هذه الجريمة الفريدة في نوعها هي التي أكسبتها صفة أكبر عملية تنظيف عرقي في التاريخ الحديث وأنظمها وأشرسها، وهي ما زالت مستمرة إلي اليوم.
وخلال العقود الستة اللاحقة لإقامة إسرائيل على أشلاء فلسطين، تركز الدور الصهيوني على تدمير القرى الفلسطينية واستغلال الأرض الفلسطينية المنهوبة بحيث تمنع عودة اللاجئين، واستقدام مهاجرين يهود جدد ليحلوا محل السكان المطرودين، ووضع الخطط الدبلوماسية والدعائية والمالية لتوطين الفلسطينيين في أي مكان، وتبرير عدم قبول عودتهم إلى ديارهم وإبراء إسرائيل من مسئوليتها. أو بمعنى آخر تكريس التنظيف العرقي والاستمرار في تطبيقه إلي أن يتم الخلاص من الفلسطينيين جسدياً وقانونياً.
أعلنت حكومة إسرائيل المؤقتة بعد أقل من 4 أسابيع على إنشائها عن رفضها المطلق لعودة اللاجئين. واستقدمت خبيراً لوضع خطة سياسية ودعائية لتبرير ذلك. وهذه الخطة، مع بعض التعديلات بين وقت وآخر، هي التي التزمت بها إسرائيل حتى اليوم.
واضع الخطة هو الصهيوني اليميني المتطرف الدكتور جوزيف شختمان. وهو يوصف بأنه خبير في "ترحيل السكان"، وهو كاتب هذا القسم في الموسوعة البريطانية، وهو زميل قريب من فلاديمير جابوتنسكي. وهو أيضاً مؤلف كتاب "ترحيل السكان في أوربا 1939 – 1945". وكان أيضاً مستشاراَ لمكتب الولايات المتحدة للخدمات الإستراتيجية فيما يتعلق بتنقلات السكان. وانتخب عضوا في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية.
أصدر شختمان تقريره بعنوان "مسألة تبادل السكان بين العرب واليهود" في صيف 1948 عندما كان الغزو الصهيوني في أوجه، وبعد أن طرد أكثر من نصف اللاجئين كافة. خطة شختمان كانت تقضي بترحيل السكان الإجباري، سواء كانوا لاجئين أو مواطنين، إلى البلاد العربية الأخرى خصوصاً العراق. وأدرك شختمان أن العرب لن يقبلوا طوعاً بالترحيل، ولكن ما أن يجدوا أنفسهم في العراق مثلاً كأمر واقع، مع تعويض كامل للأملاك التي تركوها، فلابد أن أنهم سيتسلمون لهذا الأمر الواقع. ويتم هذا الترحيل والقبول به بناء على اتفاقية دولتين: إسرائيل وإحدى الدول العربية.
استعانت دراسة شختمان بمثال تبادل السكان اليونان والأتراك وتبادل السكان الهنود والباكستانيين لتبين إمكانية هذا الترحيل. وعندما استلم ممثل الوكالة اليهودية في واشنطن النسخة الأولي من خطة شختمان في أوائل مايو 1948، طلب هذا من الولايات المتحدة دعم الخطة، بحيث لا يبقي فلسطيني واحد دون ترحيل.
وفي مباحثات لوزان (1949-1950) التي نظمتها "لجنة التوفيق في فلسطين" بناء على القرار المشهور 194، رفضت الدول العربية التوطين، عدا الأردن التي استعدت لتوطين اللاجئين بشرط انسحاب إسرائيل من رقعة أكبر من الضفة الغربية التي احتلتها، لكي تتوسع مساحة المملكة الهاشمية وبذلك يمكن إيواء عدد أكبر من اللاجئين. لكن الدول العربية أصرت على شرط عودة اللاجئين والاعتراف بعده بإسرائيل ضمن حدود التقسيم. وأُرفقت خريطة التقسيم هذه ببروتوكول لوزان.
بقيت خطة شختمان هي الهادي للسياسة الإسرائيلية، وهو الذي أرسي خرافة خروج اللاجئين بأوامر عربية وهربهم طوعاً، رغم إلحاح الصهاينة عليهم بالعودة! وبناء على ذلك أرسلت إسرائيل عملاء إلى مخيمات اللاجئين لتقول لهم أنه لا فائدة من محاولة العودة لأن البيوت هدمت والمواشي نفقت والنباتات ماتت والآبار سممتو المحاصيل حرقت، وأن المهاجرين اليهود ملأوا كل مكان. كما نشرت إسرائيل الدعاية في الغرب أنه بخروج اللاجئين طوعاً فإن عملية استبدال ومقابلة بين اللاجئين الخارجين والمهاجرين القادمين بنفس العدد تقريباً قد تمت، وهي واقعية وعادلة، "ولا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء". ومن ناحية عسكرية فقد قتلت الدوريات الإسرائيلية كل عائد إلى بيته بصفته متسللاً. ومن هذا التاريخ بدأت سلسلة طويلة لا تنتهي من المحاولات لتطبيق خطة شختمان بطريقة أو أخرى
أثناء مباحثات لوزان أصرت الولايات المتحدة على عودة ثلث اللاجئين (وهم تقريباً سكان 25% من مساحة فلسطين التي احتلتها إسرائيل زيادة على حدود التقسيم)، وعددهم حوالي 250 – 300 ألف لاجئ. وتظاهرت إسرائيل بقبول المبدأ ولكن بعد تخفيض العدد إلى 100 ألف. وكان ذلك ثمناً لموافقة الولايات المتحدة على عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة. ثم تناقص العدد إلى 70 ألف لأن إسرائيل اعتبرت أن 30 ألفاً قد عادوا سراً. ثم اعتبرت أن الباقي سيعودون ضمن برنامج "شمل العائلات" الذي لا يعود عبره إلا عدد لا يذكر من اللاجئين، ولا يزال هذا "المعبر" هو الوسيلة الإسرائيلية الوهمية لعودة اللاجئين.
وفي صيف 1949 عرض حسني الزعيم على إسرائيل، بعد الانقلاب الذي قاده في سوريا، توطين حوالي 300 ألف لاجئ، وتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، بدعم من أمريكا لحكمه. ولكن بن جوريون لم يقبل هذا العرض لاعتقاده بسرعة زوال حسني الزعيم. وهذا ما كان.
وفي نفس الوقت عرضت إسرائيل على بريطانيا وأمريكا ضم قطاع غزة بما فيه من السكان (200،000 في ذلك الوقت)، رغبة في زيادة الأرض المحتلة والسيطرة على القطاع موطن الفدائيين. ولن تعدم إسرائيل بعد ذلك الفرصة لتضييق الخناق على السكان بالقهر والاضطهاد والحصار، وتشجيع ترحيلهم، وتبقي الأرض لإسرائيل. لكن مسئولين كبار في إسرائيل رفضوا الفكرة خوفاً من تسلل اللاجئين إلي ديارهم الأصلية. وكذلك رفضتها مصر.
وقام مسئولون إسرائيليون بعد ذلك بزيارة كبار الأثرياء اليهود في الغرب لدفع تعويضات للاجئين وتكاليف توطينهم، باعتبار أن المشكلة "اقتصادية" فقط. وشاركت وزارة الخارجية الأمريكية في هذا الجهد بأن عقدت عدة اجتماعات سرية أواخر عام 1949 حضرها ممثلون عن شركات البترول العاملة في الشرق الأوسط (السعودية خصوصاً) وشركات الإنشاء والتعمير وشركات النقل والبواخر والمؤسسات الخيرية الكنسية، وذلك بغرض توطين اللاجئين، بينما كانت تصوت حكومة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة إلى جانب قرار 194.
ولم تتوقف أبداً المحاولات لتهجير الفلسطينيين وتوطينهم في مكان آخر. ففي الخمسينيات كانت هناك محاولات لتوطين اللاجئين في العريش. ولكن المظاهرات العنيفة التي قامت في غزة أوقفت المشروع.
ثم أرسلت الولايات المتحدة مبعوثها إيريك جونستون (1953 – 1954)، تحت غطاء ترشيد استعمالات مصادر المياه التي استولت عليها إسرائيل وتلك الباقية في سوريا ولبنان والأردن، وإنشاء مشاريع تنموية ومدن جديدة لتوطين اللاجئين في الأردن. وهذه فشلت أيضاً.
وعلى مدي ثمان سنوات (1950 – 1958) خططت إسرائيل لنقل اللاجئين إلي ليبيا (والصومال أيضاً) على شكل مشروع متعدد الأوجه. وبدايته في 1950 عندما قدم عزقئيل جوردان إلى المندوب الايطالي في مجلس الوصاية في الأمم المتحدة مشروعاً يدعو إلي توطين فلسطينيين مكان 18،000 يهودي تركوا ليبيا ليعيشوا في إسرائيل. وعليه أسس موشي ساسون وعزرا دانين وآخرون "لجنة اللاجئين"، قالت إنها حصلت على موافقة الحكومة الأردنية بسفر 300 خبير زراعي فلسطيني إلى ليبيا لبناء المشروع هناك. وسيسوّق المشروع خلال بنوك بريطانية على أنه شركة بريطانية للتنمية والتعمير في ليبيا يملكها بريطانيون (وهم في الواقع يهود يحملون أسماء انجليزية). ويمنح اللاجئون المرحلون إليه بوليصة حياة مدفوعة القيمة بشرط توقيعهم على التخلي عن حقهم في العودة والتعويض.
وفي الخمسينيات أيضاً، شكل ضم الجزء العربي الباقي في شرق فلسطين، الذي سمي بالضفة الغربية فيما بعد، إلى إمارة شرق الأردن، ومنح جنسيتها جماعياً إلى أهالي تلك المنطقة، تحدياً كبيراً لحقوق اللاجئين منهم في العودة. لكن الضمانات الأردنية التي قدمت للجامعة العربية بأن الضم لا يشكل أي انتهاك للحقوق الوطنية للفلسطينيين، بل على العكس فإن الأردن تتكفل بالدفاع عن تلك الحقوق، أعطي الجامعة المبرر الكافي للموافقة على الضم بعد اعتراض بعض الدول والتأخير في القرار.
وفي عام 1961 قدم الأمريكي جونسون (J.E. Johnson) مشروعاً غرضه الواضح توطين اللاجئين، وذلك بناء على ضغط أمريكي لعودة 200،000 لاجئ.
على أن مشاريع التوطين اكتسبت قوة دافعة كبيرة بعد هزيمة 1967 عندما سيطرت إسرائيل على مخيمات اللاجئين في الضفة وغزة، وأضعفت عزيمة الدول العربية في مساندة الحق الفلسطيني في العودة، بعد هزيمتها العسكرية.
وأول من تقدم لهذه المهمة آريل شارون الذي قال لحكومته: "أنا مستعد لإنهاء مشكلة اللاجئين". وكانت سياسته عزل قطاع غزة وزرع المستعمرات الإسرائيلية فيها، وتدمير المخيمات تحت ادعاء "توسيع الشوارع"، ونَقْل 70،000 لاجئ إلى مدن غزة ليعيشوا بين المواطنين ومثلهم إلى مدن الضفة. وبالفعل، قام بتدمير مناطق كثيرة من المخيمات، وقام بترحيل أهالي رفح وطرد بعضهم إلى سيناء. وقد بدأ بتطبيق خطته البربرية بالعنف والقهر (وهذا اختلاف جذري عن الخطط السابقة التي كانت تعتمد على الأغراء والخداع)، لكنها في النهاية لم تنجح إلا في إثارة الغضب والمقاومة لسياساته. وعادت خطط إسرائيل إلى الخداع والإغراء.
في أوائل عام 1968، تكونت "وحدة اشكول" بغرض ترحيل اللاجئين وفتحت لها مكتباً باسم "وكالة سفر" في شارع عمر المختار في غزة، لتوزيع تذاكر سفر (خروج بدون عودة) بأسعار مخفضة. واتفقت إسرائيل مع ألمانيا الغربية (سابقاً لذلك منذ عام 1962) على استقدام عمال بأسعار رخيصة بشرط أن يكونوا شباباً في عمر حملة السلاح. ونجحت الخطة نجاحاً جزئياً إذ يوجد اليوم بضعة آلاف من أهالي غزة، مواطنين ولاجئين في ألمانيا (وسائر أوربا) خرجوا في تلك الفترة، لكنهم اليوم أعضاء ناشطون في حركة حق العودة.
وعمد اشكول إلى وسائل علمية للقضاء على الأجيال الجديدة من اللاجئين، إذا لم يمكن ترحيل آبائهم وأمهاتهم. ولذلك عين أثنين من العلماء: البروفيسور الايطالي روبرتو باتشي (Bacci) عالم الإحصاء في المكتب المركزي للإحصاءات، والبروفسور آريه دوريتسكي (Dvoretzky) الذي كان رئيساً لمؤسسة رفائيل للصناعات العسكرية. ولاحظ العلماء أن نسبة الوفيات بين الأطفال الفلسطينيين قد قلّت، "وهذا وضع مفجع" بالنسبة لإسرائيل. ولذلك لابد من تعليم النساء الفلسطينيات على النمط الغربي، وتشجيع العائلات على إرسال أولادهم إلى الخارج ليبقوا هناك. أما في غزة فيجب تشجيع السكان على الهجرة [بتضييق وسائل العيش عليهم]. وفيما بعد سرت شائعات بعضها لها أساس علمي أن إسرائيل قد استعملت أسلحة كيماوية وبيولوجية على المتظاهرين وفي مصادر المياه، وحصلت حالات إغماء جماعي في مدارس البنات، وزادت نسبة إسقاط الحمل أو الجنين المشوه.
وأخطر الوحدات التي أنشئت في تلك الفترة هي تلك التي كان يعمل بها كل من: آدا سيريني (Sereni) وشلومو جازيت (Gazit). سيريني كانت ناشطة في جمعيات سرية (Nativ) لتهجير اليهود الروس من بلادهم إلى إسرائيل. وهي يهودية ايطالية غنية تتمتع بعلاقات واسعة. أما شلومو جازيت فكان مديراً للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وأصبح أول حاكم عسكري للضفة الغربية، وفي التسعينيات أصبح ناشطاً في مؤتمرات اللاجئين، خصوصاً تلك التي تنظمها كندا وبريطانيا وأمريكا بعد اتفاقات أوسلو، وهو الذي يوكل إليه غالباً الدعاية لموقف إسرائيل حول اللاجئين.
سيريني وضعت خطة لترحيل اللاجئين إلى الأردن واستراليا والبرازيل وبلاد أخرى في أمريكا الجنوبية مقابل دفع مكافآت مالية مجزية. كما أن الجنرال شلومو جازيت دفع رشوات لضباط الجسر الأردنيين لتسهيل ترحيل اللاجئين من الضفة إلى الأردن.
كما أنه استعمل الحيلة القديمة أيام الانتداب: إقراض فلسطيني محتاج، وعندما يحين الوقت لرد المبلغ (وهو أمر مقدر سلفاً) يطالبه بدفع الدين عن طريق آخر. وكانت الولايات المتحدة على علم بهذه الخطة السرية. وكان السناتور إدوارد كندي من الداعمين للخطة السرية لترحيل 200،000 لاجئ من غزة. وتم بموجب ذلك ترحيل قبيلة بدوية من جباليا. وأعطيت الأوامر لإطلاق الرصاص والقتل لكل شخص، بما فيهم النساء والأطفال، يعود إلى البلاد بعد عبوره النهر، باعتباره أنه "متسلل" خطر. ويدّعي أصحاب الخطة أنهم نجحوا في ترحيل 15،000 (وبعض الأرقام تصل إلى 50،000) خلال 3 شهور من تنفيذ الخطة. ولم يحاسب شلومو جازيت الذي يحضر مؤتمرات دولية بانتظام على دوره هذا في تنفيذ جرائم الحرب.
وفي عام 1993 تم التوقيع على تفاهمات أوسلو التي خلقت مآسي جديدة للفلسطينيين وتدهوراً في المواقف الوطنية. ذلك لأن أساسها هو تجاهل القانون الدولي والحقوق الفلسطينية، والوصول بدلاً من ذلك إلى اتفاق يرتكز على قبول الشعب المحتل بإملاءات القوة المحتلة باسم الواقعية.
وقد فرّخ هذا الجو مشاركة بعض الفلسطينيين في مشاريع التوطين ولو بصورة غير مباشرة. إن "خطة البحر الميت" (التي أعلن عنها لاحقاً في فندق جنيف) والتي صاغها يوسي بيلين ووقعها ياسر عبد ربه هي مثل على ذلك. تقترح الخطة عرض 5 خيارات على اللاجئين: الأول هو العودة إلي الوطن بشروط عديدة تؤدي في أحسن الأحوال إلى عودة ما لا يزيد عن 0.5% من اللاجئين، من خلال إعادة إحياء برنامج "لم الشمل". (والمفارقة أن هذا ليس خياراً بل هو حق طبيعي غير قابل للتصرف يحق لكل لاجئ ممارسته متى شاء دون أي قيود). أما الخيارات الأربعة الأخرى فهي عناوين مختلفة لتوطين اللاجئ في أحد المنافي التي يختارها أو التي يرحلونه إليها. وهذا هو أوضح صورة لممارسة التنظيف العرقي التي يعاقب عليها القانون الدولي، على شكل برنامج سياسي متفق عليه.
أما مشروع ايالون الذي تبناه سرى نسيبه فهو يدعو إلى تكريس عملية التنظيف العرقي واعتبارها شرعية (سواء في نشوئها عام 1948 أو استمرارها بعد ذلك)، وإسقاط حق الأجيال القادمة في ديارهم، وذلك عن طريق تغيير عنوان المخيمات من تلك التي تقع على حدود فلسطين إلى عنوان في الضفة وغزة. وعلى ذلك تصبح فلسطين التي احتلت عام 1948 وطناً قومياً ليهود العالم حتى أولئك الذين لا يسكنون هناك الآن. أما خمس فلسطين الباقي فيصبح في تقديرهم وطناً خالصاً لعشرة ملايين فلسطيني ونسلهم في المستقبل.
وعلى الرغم من مخالفة هذا الاقتراح لأبسط مبادئ العدالة والقانون الدولي، إلا أنه أيضاً فاشل من ناحية عملية، لأنه لا يمكن أن تستوعب الضفة كل اللاجئين العائدين.
ورغم ذلك، واصلت وزارة التخطيط تحت رئاسة نبيل شعث دراساتها، التي دعمها الاتحاد الأوربي بسخاء، في البحث عن حلول ومشاريع لتوطين اللاجئين في الضفة، وهو بحث من السهل معرفة نتيجته سلفاً. وعلى سبيل المثال، بينت شركة راند للبحوث (Rand) التي تعمل غالباً كمستشار لصالح الحكومة الأمريكية في تقرير صدر عام 1994 عدم إمكانية استيعاب الضفة حتى لجزء من العائدين.
وبموجب تمويل سخي من أحد الأثرياء الأمريكيين قامت راند عام 2005 بعمل دراسة موسعة لاستيعاب الضفة عن طريق بناء قوس للخدمات يبدأ من غزة ويخترق الضفة وينتهي في حيفا. والدراسة مليئة بالأرقام والدراسات الجادة، ولكنها غفلت عن مبدأ أساس هو أنه لن يقوم سلام مبني على إنكار الحقوق الثابتة، وأن السلام أرخص كثيراً من الحرب أو حتى من المشاريع البهلوانية، وأن الأولى أن تدرس هذه المشاريع مرحلية عودة اللاجئين إلى ديارهم التي استولت عليها مستعمرات الكيبوتز، وعدد سكانها لا يتجاوز 1.5% من يهود إسرائيل، وبالتالي لا تزال أرض اللاجئين خالية نسبياً، كما أن 90% من مواقع قراهم لا يزال خالياً.
وفيما بعد اتفاقية أوسلو، راجت "صناعة السلام" وانتشرت مئات الجمعيات الأهلية وعقدت عشرات المؤتمرات بتمويل سخي من الولايات المتحدة وأوربا، وغرضها الترويج بشكل مباشر أو غير مباشر إلى "حل" مشكلة اللاجئين، بتوطينهم حيث هم، أو في مكان بعيد، أو نقل بعضهم إلى الضفة الغربية كبادرة رمزية للعودة إلى أرض الوطن، وليس إلى الديار التي أخرجوا منها. (لا يقترح أحد زيادة الكثافة السكانية في غزة).
وبلغ الأمر بمحامية يهودية أمريكية من أصل روسي، كانت ناشطة في تهجير اليهود الروس إلى إسرائيل، دونا آرزت (Arzt) أن اقترحت خطة تنظيف عرقي جديدة، بحيث تعيد ترحيل اللاجئين إلى منافي نهائية، لا تؤثر سلباً على أمن إسرائيل، ولا على مشاريع هجرة جديدة لليهود إليها. ونشرت هذه الخطة التي تنتهك القانون الدولي في كتاب أصدره مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية. ولم يحتج أحد، إلا بعض الباحثين الفلسطينيين، على هذا الانتهاك من جمعيات حقوق الإنسان أو غيرها.
هذه الدعوة الصريحة إلى جرائم الحرب، بتكريس عملية التنظيف العرقي وتوطين اللاجئين في المنافي، تقابلها في الوقت نفسه حرب شعواء ومقاطعة وحصار على كل من يدعون إلى تطبيق حقوق الإنسان، وعلى رأسها حق العودة. وعلى سبيل المثال، موّل الاتحاد الأوربي في غزة جمعية نسائية لتنوير النساء عن حقوقهن. ولما تطرق التنوير إلى الحق في السكن، وبالتالي الحق في العودة إلى البيت والديار في فلسطين، قُطع نصف التمويل عن هذه الجمعية. كما أن جهات غربية مموَّلة ضغطت على الجمعيات التي تمولها في الضفة وغزة لكي توقع تعهداً بعدم مساعدة "الإرهاب" بأي شكل. "والإرهاب" بهذا المعني هو أي عمل يقوم به الفلسطينيون لمقاومة الاحتلال واغتصاب الأرض.
وإذا نظرنا إلى العقود الستة الماضية من الصراع مع الحركة الصهيونية بعد النكبة، يتضح دون مجال للشك أن الخطة الصهيونية لا زالت متمسكة بالتنظيف العرقي لأصحاب الأرض التي عاشوا عليها آلاف السنين، من أجل إجلائهم عنها وإحلال مهاجرين يهود مكانهم. ورغم أن هذه جريمة حرب عوقب عليها المسئولون في بلاد آخري أثناء حروب قصيرة الأمد، إلا أنه لم يحاسب أحد مجرمي إسرائيل على جرائمهم خلال ستين عاماً مضت، وعلى نواياهم وخططهم خلال ستين عاماً سبقتها. وفي الوقت نفسه يتضح لنا أنه خلال نفس المدة لم يكف الشعب الفلسطيني عن المقاومة ضد الإجلاء عن الوطن، وخاض عدة حروب وعاني من مئات الغارات ومن الاحتلال والقهر والحصار، وسقط منه مئات الآلاف من الشهداء وأكثر منهم من الجرحى، وفي الأراضي المحتلة لم يسلم نصف الشباب من الاعتقال في السجون الإسرائيلية. لكن الشعب الفلسطيني لم يركع ولم يرفع راية الاستسلام
ورغم عمليات التهجير التي وصفناها فإن 88% من الفلسطينيين لا يزالون يعيشون على أرض فلسطين وفي نطاق حولها لا يتجاوز عرضه في الغالب 100 كيلومتر. أما الباقون، فيعيش 6% منهم في بلاد عربية أخرى مثل الخليجْ و6% في بلاد أجنبية، ومعظم هؤلاء غادروا طوعاً للعمل والتعليم. ولم يتمكن كثير منهم من العودة إلي ديارهم أو حتى إلى مخيمات اللجوء على أرض فلسطين، عندما أرادوا العودة إلى ذويهم في الأرضي المحتلة.
وقد أدي نقل صور القهر وبطش الاحتلال الإسرائيلي في عالم الاتصالات السريعة إلى كشف أكاذيب إسرائيل "كدولة مسالمة تدافع عن وجودها في بحر من العرب المتوحشين". لم تعد هذه الدعايات تنطلي على أحد. وأصبح الرأي العام الأوربي، خصوصاً البريطاني، أكثر إدراكا للحقائق، مما دعاه إلى مقاطعة إسرائيل أكاديمياً وتجارياً في حملة لا زالت في بدايتها، ولكنها لا شك مستمرة في النمو.
كما أن حركة المطالبة بحق العودة لم تعد تشمل المخيمات والتجمعات في البلاد العربية، بل انتشرت في الشتات الأوربي والأمريكي، الذي كان المقصود به نفي اللاجئين إلى مكان بعيد عن فلسطين. ففي جو من الحرية والديموقراطية والأمان على لقمة العيش نشأت عشرات الجمعيات التي تطالب بحق العودة، بل وتضغط على الحكومات التي أصبح فيها اللاجئون مواطنين، لكي تقف إلى جانب الحق.
وفي مفارقة تاريخية لافتة فإن مكاتب السفر التي اختلقتها سيريني وزميلها الجنرال شلومو جازيت لتهجير اللاجئين، خلقت منابر جديدة لحق العودة في بلاد لم تكن تعرف اسم فلسطين.
بل إن المفارقة الأكبر هي استنساخ اليهودي التائه بالفلسطيني التائه الذي يجوب العالم بحثاً عن الوطن. ولكن مع الفارق الكبير أنه في عهد الطائرات والتلفونات والفضائيات والانترنت، يمكن لهؤلاء "التائهين" أن يجتمعوا في مؤتمر أو ينظموا المظاهرات أو يقوموا بأعمال أخرى من المقاومة كما لو كانوا في مدينة واحدة. بل أنهم جعلوا من كل مدن العالم ميداناً للمقاومة وللدفاع عن حقوقهم.
وحيث أن المشروع الصهيوني لم ينجح (ولا نقول أنه فشل) في تحقيق كل أغراضه، وحيث أن الشعب الفلسطيني لم يتمكن بالقوة المباشرة من استعادة حقوقه حتى الآن، فإن الصراع سيستمر، ولن يتوقف أبداً إلا إذا انُتزعت العنصرية والتمييز والاستيطان والفصل العنصري من المشروع الصهيوني روحاً وجسماً، فكرة وقانوناً، نظرية وممارسة. وعندها تصبح حقوق الإنسان، بغض النظر عن ديانة وهوية هذا الإنسان، هي العنصر المعلّى في قيمة الإنسان وممارسته لحياته على أرض وطنه.
وقد فطن لهذه النتيجة باحثون خارج ميدان الصراع مثل توني جت (Tony Judt) المؤرخ اليهودي الأمريكي وفرجينيا تللي (Virginia Tilley) الأستاذة في جامعة أمريكية ذات الخبرة في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ولذلك دعا هؤلاء وغيرهم إلى إنشاء دولة ديموقراطية في فلسطين للمواطنين أصحاب الأهلية في الأرض دون تمييز على أي أساس. وهناك إدراك عام يتزايد ببطء في صفوف المفكرين أن المشروع الصهيوني العنصري شر لابد من إزاحته، كما كان مصير أشباهه في التاريخ الحديث.
وقد بينت دراساتنا خلال السنوات العشر الماضية أن عودة اللاجئين إلى ديارهم ممكنة ومدروسة قانونياً وجغرافياً وسكانياً واقتصادياً. وأن العقبة هي تمسك إسرائيل بالعنصرية وتحالف الغرب معها وتأييده الأعمى لها.
لكن هذا الحائط سينهار يوماً ما، بزيادة الوعي واستمرار صمود الشعب الفلسطيني وسيعود كل فلسطيني إلي بيته، لا شك في ذلك. وحينئذ يساق دعاة التنظيف العرقي تحت شعار "التوطين من أجل تخفيف المعاناة الإنسانية للاجئين" إلى محكمة الجنايات الدولية حيث يلقون جزائهم العادل،حتى وإن تأخر.