نكبة فلسطين حدث فريد من نوعه في التاريخ الحديث. فلم يحدث قط في مكان آخر غير فلسطين أن غزت أقلية أجنبية مهاجرة أرض الأغلبية الوطنية، وطردتهم منها واستولت على أرضهم وأملاكهم وأزالت آثارهم الحضارية والتاريخية، كل ذلك بتخطيط مسبق، ودعم مالي وعسكري وسياسي من الخارج، امتد على مد قرن من الزمن.
ولم يحدث قبل ذلك في تاريخ فلسطين الطويل أن أزيل شعب واستبدل بآخر. وعندما انتشرت رسالة الإسلام في فلسطين في القرن السابع الميلادي، لم تحدث خلخلة سكانية بمثل حجم النكبة، إذ أسلمت قبائل وأفراد، وبقي آخرون على ديانتهم المسيحية، واختلط هؤلاء بعناصر جديدة من الجزيرة العربية.
وعلى مدى 20 قرناً من الزمان، تميز تاريخ اليهود، في أوربا على وجه الخصوص، بدورهم التاريخي في محاكمة السيد المسيح وما تلا ذلك، مما جلب عليهم غضب الشعوب المسيحية واستنكارها، في أوربا على الأخص.
وفي العقود الثلاثة الماضية – منذ السبعينات على الأخص ظهرت بين اليهود المسيسين ما سماه نورمان فنكلشتاين "صناعة المحرقة"، مما جعل تاريخ اليهود في أوربا موصوماً بالمحرقة،وهو، على عكس دورهم في تاريخ السيد المسيح الذي أكسبهم عداء أوربا، استجلب لهم العطف والتأييد السياسي والتعويضات المالية الجزلة والحظر على من يشكك في المحرقة بالتهديد بالسجن والإقصاء.
لكن تاريخ اليهود الصهاينة سيدمغ في المستقبل، عندما ترفع الغمامة عن أعين الغرب، بدورهم المستمر في تدمير الشعب الفلسطيني بشكل منتظم ومستمر، في الحرب والسلام، على مدي نصف قرن أو يزيد. وهذه الجريمة ستبقي مسجلة في تاريخهم حتي بعد أن يخبو لهيب الحرب العالمية الثانية وبعد أن تنسي أوربا العلمانية تاريخ السيد المسيح.
ومن هنا، فإن دراسة تاريخ النكبة والتعمق في كل أركانها واستجلاء جميع الجوانب الخافية فيها من أهم الأمور التي يجب أن تستحوذ على اهتمام الفلسطينيين والعرب والمسلمين وسائر شعوب العالم التي تؤمن بالعدالة. وهذا الاهتمام ليس فقط من أجل توثيق الماضى وتسجيل التاريخ. فهذا الموضوع على أهميته ينطبق على حوادث تاريخية انقضت آثارها. لكن النكبة لا تزال مستمرة إلى اليوم، وسيمتد الصراع إلى أجل غير قصير. ولذلك فإن تسجيل تاريخ النكبة هو وسيلة للتخطيط المستقبلي لكيفية استعادة الحقوق والمسائلة عما أرتكب اثناء النكبة المستمرة. وعلى سبيل المثال، فإن تسجيل تاريخ النكبة مفيد في توثيق جرائم الحرب (المجازر، الاغتصاب، التدمير، النهب، طرد المدنيين أو استغلالهم) وكذلك في توثيق الملكية الفردية والجماعية وفي توثيق عدد اللاجئين المتضررين وكيفية تضررهم، وأخيرا وليس آخراً، في وضع أفضل الخطط لتنفيذ حق العودة.
الرواية الفلسطينية
ليست هناك مأساة في التاريخ الحديث أكثر فظاعة وأقل وصفاً من تاريخ النكبة. فلاتزال إلي اليوم مئات الآلاف من الشهادات التي لم تسجل لنساء ورجال وأطفال عاصروا النكبة وذاقوا مرارتها. وهذا هو الدور المنوط بنا القيام به بجانب الدور الاساسي وهو تحقيق حق العودة.
ومع ذلك فقد كتب الفلسطينيون عدة أعمال هامة عن النكبة، من أهمها وأولها العمل الموسوعي لعارف العارف، النكبة، وتلاه آخرون عاصروا النكبة وشاركوا فيها.
على أن أغزر الأعمال وأقربها إلى الوصف الانساني المؤثر هي مذكرات الافراد عن حياتهم وبلدانهم في فلسطين. كما أصدرت مؤسسات بحثية كتيبات خصص كل منها عن سيرة بلد في فلسطين، تشرح تاريخ البلدة وعائلاتها ومنازلها وكيفية نزوحها وما تعرضت له اثناء النكبة. وهذا العمل الهام الذي يؤرخ للذاكرة الفلسطينية نرجو له أن يستمر ليغطي كل بلدانيات فلسطين وجميع مظاهر حياة أهلها في بلادهم.
ورغم أن كل هذه الأعمال تصور عنصرا هاماً من وقائع النكبة وهو شهادة الناجين منها، إلا ان هذه الرواية الفلسطينية الواقعية قد تم تجاهلها في الادبيات الغربية على مدي عدة عقود. وهو أمر يمكن تفسيره لاول وهلة بطغيان الدعاية الصهيونية وتغلغلها في أوربا وأمريكا، وذلك عن طريق الصحافة وأفلام هوليوود وإصدار الكتب التي ألفها في الغالب مؤرخون موالون لاسرائيل.
وإن كان هذا يعكس النشاط الصهيوني في هذا المجال، فإنه لا يغفر للمؤرخين الجادين غير الصهاينة إهمالهم التام – حتي عهد قريب – للرواية الواقعية على لسان الفلسطينيين الناجين من معاناة النكبة. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بالتعصب الاستشراقي ضد العرب والمسلمين، واحتقار شهادة الشعوب المتخلفة على أنها أمر لا يعتد به. وهذا الرأي السائد جعل والتر إيتان مدير الخارجية الاسرائيلي في عهد بن جوريون يرد على تقارير مراقبي الامم المتحدة عن مجزرة الطيرة التي أوردت شهادات الناجين ويصفها بانها "اختراع من خيال شرقي مريض". وهو التعبير الاستعماري الاوربي المألوف عن الشرق. حتي بني موريس الذي اكتسب شهرة بأنه كشف الملفات الاسرائيلية التي تؤيد ما كان يقوله الفلسطينيون دوماً، نأي بنفسه عن الرجوع الي شهادة الناجين من النكبة باعتبار أنها غير موثوقة.
الرواية الاسرائيلية
تعتمد الرواية الاسرائيلية عن النكبة، وعن تاريخ استيلاء الصهيونية على فلسطين عموماً، على أكبر مجموعة من الاكاذيب والتضليلات التي اعتمدت عليها المشروعات الاستعمارية الاستيطانية منذ القرن التاسع عشر. فنحن لا نجد هذه الكمية المفبركة من الاكاذيب، لا نوعاً ولا عدداً، في استعمار هولندا لجنوب افريقيا، ولا البرتغال لجوا الهندية، ولا هولندا لاندونيسيا ولا فرنسا للمغرب العربي ولا اسبانيا ولا امريكا للقارة الامريكية.
وقد يبو هذا عجيباً حقاً في عصر انتشرت فيه المعرفة وتنتشر بشكل متزايد. ويكفي أن نستعرض بعض المقولات الصهيونية لندلل على ذلك: فلسطين أرض بلا شعب، لا يوجد شىء اسمه الفلسطينييون، اللاجئون خرجوا طوعاً أو بأوامر عربية رغم إصرارنا على بقائهم، اليهود الصهاينة كانوا قلة مستضعفة أمام جيش عرمرم من العرب الغزاة عام 1948، احتلالنا هو أعظم احتلال "انساني" بعد الحرب العالمية الثانية....الخ.
لكن هذا ليس عجيباً إذا تذكرنا أن الصهيونية بحاجة إلى كل هذه الاكاذيب لانها لا تملك على الاطلاق واقعاً أو حقاً لا جدال فيه يمكن أن تعتمد عليه. فلسطين ما قبل 1917 لم يكن لليهود فيها وجود يذكر. فعددهم لم يتجاوز 9% من السكان وتأثيرهم لم يتجاوز أي جالية أخري عاشت بسلام في فلسطين، وملكيتهم في الاراضي لم تتجاوز 2% من فلسطين.
ومن هنا نشأت الحاجة إلى البحث عن مبررات جديدة للاستيلاء على فلسطين مثل الالتجاء إلى العهد الجديد والعهد القديم لربط كلمة اسرائيل القديمة بدولة اسرائيل الحديثة، وإغراء الدول الاستعمارية الاوربية بأن الصهيونية ستكون خادم الاستعمار ووسيلة التخلص من اليهود الاوربيين.
أما تاريخ النكبة فهو بالنسبة لهم تاريخ انتصار الشعب المضطهد المناضل، صغير العدد كبير العزيمة على جيوش العرب البرابرة الذبن غزوا ارض اسرائيل للقضاء على الوليد الصغير. وهكذا تفبرك تاريخ حرب فلسطين على نسق الرواية الاسرائيلية.
وتأييداً لذلك صدرت عشرات الكتب والروايات والافلام تردد هذه الرواية وتطمس غيرها حتي أصبح الاعتراض على هذا التزوير ولو جزئياً مروقاً يشبه الهرطقة ضد الكنيسة الاوربية في العصور الوسطي.
ولكن بعد مرور 30 عاماً أو يزيد على الاستيلاء على فلسطين، شعر الصهاينة أن الواقع الذي خلقوه واعتراف الغرب بهم أصبح شرعياً بمجرد حدوثه. ولذلك فٌتحت بعض الملفات الاسرائيلية (باستثناء جرائم الحرب)مما دعا إلي ظهور مراجعات جديدة للتاريخ الصهيوني عام 1948 على يد من أطٌلق عليهم إسم "المؤرخين الجدد".
وباستثناء ايلان بابيه، فإنه لم يتخل أحد من هؤلاء المؤرخين الاسرائيليين عن صهيونيته. فكل يريد اكتساب صدقية نابعة من البحث عن الحقيقة (التي وجدها في الملفات الاسرائيلية مؤخراً)، ولكنه لا يريد أن يدفع الثمن القانوني والأخلاقي لجريمة النكبة التي إن لم يشارك فيها لصغر سنه، فهو استفاد من مكاسبها، بيتاً وأرضا وهوية، على حساب الضحية الذي فقد كل هذه، لكن لم يفقد ملكية الحق ولا النية في استرجاعه.
وبني موريس مثال فريد يدلل على ذلك. فهو صحفي تحول الي مسجل للحوادث (Chronologist) ومنه اكتسب صفة المؤرخ. لكنه لم يتعلم من التاريخ، فهو يسجله دون أي ندم عليه، كما يسجل حارس معسكر اعتقال نازي اسماء ضحاياه وتاريخ قتلهم. وذلك لانه صهيوني ويعترف بأنه مازال كذلك حتي بعد اكتشافه للتاريخ الإجرامي للصهيونية. وهو يعتب على بن جوريون لانه لم يقض على البقية الباقية من الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم.
هذه الرواية الاسرائيلية بأكملها تتساقط يوماً بعد يوم، قطعة بعد قطعة، امام الجمهور الغربي، المؤيد والجاهل، لكنها لا تزال رواية سائدة في أذهان الكثيرين. وحتي اولئك الذين اكتشفوا زيفها يعتقدون أن هذا زمان مضي، ولا مجال للبحث فيه. لكن هذا الرأي بعيد عن الواقع بُعد الرواية الاسرائيلية عن الحقيقة.
رواية أطراف ثالثة
لا شك أن الرواية الفلسطينية لتاريخ النكبة، على الرغم من القصور في شمولها ومادة تقاريرها، لا تزال هي المادة الخام الأساسية التي تصف هذا التاريخ. والآن بعد أن اعترفت اعمال المؤرخين الجدد بصدق الرواية الفلسطينية، ولو جزئياً، بقي علينا استقصاء مصادر جديدة لهذا التاريخ.
لدينا ثلاثة مصادر هامة لم تتم الاستفادة منها إلا في أضيق الحدود، ولم تحظ حتي الآن بالاهتمام اللازم.
أولها مصادر اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي تواجد في فلسطين قبل مشروع التقسيم وعاصر النكبة، وشهد ضباطه مذبحة دير ياسين. لقد فٌتحت سجلات الصليب الأحمر لاول مرة عام 1996 نتيجة للضغوط اليهودية التي اتهمت الصليب الأحمر بالتواطؤ مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية. ورغم أن السجلات التي أصبحت متاحة عبارة عن مراسلات داخلية (بالفرنسية) كتبت بلغة جافة، الإ أنها كشفت عن معاناة الفلسطينيين اثناء النكبة، وكشفت عن إقامة اسرائيل لمعسكرات عمال بالسخرة على نسق المعسكرات النازية. وهذا الاكتشاف الجديد الذي لم يتم نشره حتي الآن بشكل مفصل، يضيف مصداقية جديدة للرواية الفلسطينية.
لقد أقامت اسرائيل 4 معسكرات اعتقال رسمية في معسكرات الجيش البريطاني اثناء الانتداب وهي: إجليل، عتليت، صرفند (الرملة)، تل لوينسكي. وفي نوفمبر 1948 زار الصليب الأحمر هذه المعسكرات، ووجد فيها خمسة آلاف معتقل فلسطيني معظمهم قرويون من القرى التي احتلتها اسرائيل.
جاء في تقرير للصليب الأحمر بتاريخ 1948/11/12: "لقد وجدنا المدن والقري العربية [في الجليل] التي احتلتها القوات اليهودية في حالة حرجة جداً. جميع الشباب (المدنيين) اعتقلوا وأخذوا إلى معسكرات عمل واعتبروا أسرى حرب. أما العجزة والنساء والأطفال فقد تركوا دون مئونة. وهؤلاء المساكين لم تعط لهم الفرصة لجمع محاصيلهم وزيتونهم لانهم منعوا من مغادرة القرية [بسبب الأمر العسكري بمنع التجول]. كم كان منظر هؤلاء الناس البائسين يقطع نياط القلوب".
لقد وصفت تقارير الصليب الأحمر كيف أن القرويين المعتقليين استعملوا في أعمال تساعد الاقتصاد الحربي الاسرائيلي، وهو بالطبع مخالف للقانون الدولي، كما عالج اطباؤه التيفوس الذي تفشي في عكا في مايو 1948، بسبب وجود جرثومة التيفوس في مياه الشرب، وذكر أن عكا مدينة "يخيم عليها جو من الإرهاب".
أما سبب الأصابة بالتيفوس فهو نتيجة تسميم الصهاينة لمياه الشرب في عكا، والذي تكرر في نفس الشهر في محاولة فاشلة لتسميم آبار غزة.
لكن الصليب الأحمر لم يكتشف الإ عددا محدوداً من معسكرات الاعتقال والسخرة. لقد بينت المقابلات التي قام بها الكاتب عن وجود ما لا يقل عن 17 معتقلاً آخر نقل إليه المدنيون الفلسطينيون اثناء الغزو الصهيوني. وأفاد الشهود الموجودون الآن في مخيمات اللاجئين أنهم أجبروا على نقل الذخيرة وحفر الخنادق ودفن الجثث ونقل مخلفات البيوت العربية المهدمة والتي تم نهبها. أنظر الخريطة لبيان معسكرات الاعتقال المعترف بها من قبل الصليب الأحمر والأخرى التي ذكرها الشهود.
ولاتزال ملفات الصليب الأحمر تحتوي الكثير عن تفاصيل معسكرات السخرة وتبادل الأسرى وزيارة الأسرى اليهود في الاردن وسوريا ومصر وتجويع من تبقي من بدو بئر السبع في اسرائيل وتدمير المستشفيات وحوادث القتل والاغتصاب على خط الهدنة، هذا بالإضافة إلى تفاصيل طويلة مملة عن الادوية والمستلزمات الطبية ومشاكل المكاتب الادارية.
اما التقرير الشهري للصليب الأحمر للرئاسة في جنيف فهي يحتوي بانتظام على الوضع العسكري والسياسي وعلى عدد اللاجئين وأسرى الحرب ورواد العيادات والحاجات الطبية الشهرية.
أما التقارير الداخلية لمراقبي الهدنة عن الفظائع والمخالفات التي أرتكبتها اسرائيل والتي حقق فيها المراقبون فهي ايضا مصدر هام لتاريخ النكبة، ولم يستشهد بها أولاً حسب علمي الإ بالمبو، وقد سبق أن نشر الكاتب تفاصيل بعض هذه التقارير.
وأهم هذه التقارير الموجودة في مكتبة داج همر شلد في بناية الأمم المتحدة تحت رقم DAG –13/3.3.1:10 بعنوان Atrocities تحتوي على مراسلات مراقبي الأمم المتحدة في الميدان إلى رؤساهم في المكتب الرئيسي وإلى نيويورك. ورغم أنها غير كاملة، الإ أنها تعطي صورة لم تنشر من قبل عن جانب معروف لدي العرب (كثرة الشكوي لمراقبي الهدنة ضد جرائم اسرائيل)، وغير معروف لهم (كيفية التحقيق في هذه الشكاوي). ويوجد في نفس الملف تقارير عن مختلف التحقيقات بالانجليزية والفرنسية عن حوادث في العدسية والباقورة والطيرة (حيفا) وفي المشبة قرب غزة وعيلبون والبعنة ودير الأسد ومجد الكروم والنقب والدوايمة. ويبدو أن هذا الملف، على الرغم من المعلومات الكثيرة به، ناقص الاوراق أو أنها سحبت منه.
وعلى سبيل المثال يوجد ملف: "الادعاء بحرق 28 عربياً احياء" (Alleged burning of 28 Arabs alive). . وبدراسة تفاصيل الملف ومن واقع شهادة الشهود الناجين، والمسجلة في ملف الأمم المتحدة، يمكن إعادة ترتيب حادث حرق الأهالي أحياء على الشكل الآتي: في يوم 16 تموز، دخل اليهود قرية الطيرة (حيفا) بعد أن سقط 13 شهيداً منها. انسحب المقاتلون الشباب إلى خارج القرية، وبقي كبار السن الذي استسلموا للجيش الغازي، ثم نقل اليهود حوالي 30 شخصاً من متوسطي العمر إلى عكا، ولم يعرف عنهم شيء (اتضح فيما بعد أنهم أرسلوا إلى المعتقل)، وبعد فترة نقل اليهود حوالي 300 شخص في 20 باصاً إلى منطقة اللجّون، وكانت ترافق كل باص مجموعة من الحراس اليهود يحملون مدافع رشاشة، وقرب خطوط القوات العراقية، طردوهم في اتجاه المنطقة العربية بعد أن أطلقوا خلفهم زخات من الرصاص.
وفي يوم 25/7 (19 رمضان) عاد اليهود إلى القرية التي لم يبق فيها إلا العجزة وكبار السن، وبعضهم ضرير، ونقلوا ما تبقي من الأهالي (حوالي 60-80 شخصاً) في باصات تحت حراسة يهودية قوامها 10-15 شخصاً، ووصلوا إلى منطقة شرق اللجّون حوالي الساعة الثامنة مساءً. وقفت الباصات على طريق العفولة، قرب بعض البيوت الجديدة التي هدم بعضها حديثاً، وأمر اليهود الركاب أن ينزلوا ويحمل كل منهم صرته، ويجلسوا في دائرة تبعد حوالي 200 متر عن الطريق العام في حقل قمح محصود، وأخبروهم أنهم قريبون من الخطوط العربية. سلم الحراس هذه المجموعة إلي حراس يهود من مستعمرة قريبة (اتضح أنها مركز شرطة احتله اليهود، وكانت قبعاتهم تماثل قبعات الشرطة). اشتد العطش بالأهالي بعد يوم طويل من السفر في رمضان، فطلبوا ماء ليشربوا فطلبوا منهم الانتظار، بعد قليل عادوا بغالونات من البنزين وصبوه على الأهالي الجالسين على صررهم وعلى الحصاد الجاف حولهم، وأشعلوا فيهم النيران، وتركوهم يحترقون، وأطلقوا النار عندما حاول بعضهم الهرب. أصاب الأهالي الذعر والنار تأكلهم، ولم يعرفوا أين يتجهون في الظلام، ومعظمهم عاجز عن الحركة لكبر السن، ومنهم عاجز عن الرؤية، فصاروا يصرخون ويستغيثون بالله، واليهود يراقبونهم، وكان الحراس يتكلمون العربية، ويقولون لهم (ما في الله).
هرب بعضهم وأخبروا بما جري. ليس من المعلوم تماماً كم نجا من المحرقة لآنهم تفرقوا بعد ذلك، ولجئوا إلى مخيمات نابلس وأربد ودمشق وصيدا، وتمكن مراقبو الأمم المتحدة من تسجيل شهادة عشرة أشخاص من أصل 15 يعتقد أنهم نجوا.
أما الأحياء الذين أحرقوا فوصل عددهم إلى 55 كحد أقصي. وأستقر رأي المراقبين على قائمة معتمدة فيها 28 اسماً، تكرر ذكرهم على لسان الشهود. ولكن لدينا أسماء 40 شخصاً عدا الشهود.
وتوالت شهادات الشهود تروي القصة، وتكرر سرد أسماء الضحايا على رغم اختلاف الشهود والمحققين ومكان التحقيق، ووصلت لجنة التحقيق، في تقريرها الأول المؤرخ في 1948/9/12 إلى قناعة بأن الشهود أدلوا بالحقيقة، وأن هذا العمل (حرق الأهالي) عمل شبه حربي، مخالف للهندنة.
إلا أنه حتي هذه الإدانة الخفيفة لم تستمر طويلاً، إذ بعد أسبوع من التقرير، اغتال الإرهابيون اليهود الكونت برنادوت، وانشغل رئيس المحققين باصطحاب جثمان برنادوت والتحقيق في مقتله. وفي 23/9، كتب المستشار القانوني تقريراً، قرر فيه أنه، بعد الإطلاع على شهادة الشهود، لا يوجد دليل قاطع على جريمة المحرقة(!) إذ أن أقوال الشهود متناقضة، معتبراً أن قول القرويين البسطاء أن عدد اليهود المرافقين يتراوح بين 10 أو 15، أو أن عدد الباصات 2 أو 3 هو تناقض يخل بالحقيقة، ولا يعتمد عليه، وأوصي أن يزور فريق التحقيق مكان الحادث وأن يؤخذ بعض الشهود إليه لمطابقة أقوالهم بطبيعة المكان.
والغريب أن فريق التحقيق لم يزر مكان الحادث على الإطلاق، وكان من الواجب أن يقوم بذلك فور الإبلاغ عنه أي بعد يومين من المحرقة، ولو فعل ذلك لوجد آثارها على الأقل إن لم يجد بعض الجثث الموجودة قبل نقلها.
هذا مثال واحد لجرائم اسرائيل التي لم تنشر والتي أبدى فيها المراقبون استخفافاً بحياة المدنيين إلى الحد الذي كتب فيه أحدهم: "هناك حوادث مشابهة كثيرة ولكن ليس لدينا الوقت لمتابعتها".
أما المصدر الثالث لتاريخ النكبة فهو أرشيف جمعية خدمات الاصدقاء الامريكية (AFSC) المعروفة باسم الكويكرز، الموجود في مقرها بمدينة فيلادليفا بالولايات المتحدة. ورغم أن الكويكرز حضروا إلى غزة بعد أحداث النكبة مباشرة إلا أنهم كانوا أهم شهود على عواقبها وأقربهم إلى اللاجئين نظراً للمعيشة اليومية معهم، وهم الذين انشأوا معظم المخيمات في قطاع غزة، كما نظموا قائمة مفصلة باسماء اللاجئين وقراهم، مبنية جزئياً على قوائم عمومية للصليب الأحمر. وقد أورث الكويكرز قوائمهم التفصيلية إلى وكالات الأمم المتحدة المتعاقبة التي استقرت عام 1950 على وكالة الاونروا.
يحتوي الملف على معلومات عن إطعام اللاجئين في مخيمات البريج ودير البلح والشاطئ والفالوجة (في الفترة القصيرة بين تاريخ توقيع الهدنة مع مصر في 1949/2/24 وطرد اسرائيل للأهالي بعد ذلك بأسابيع)، كما يحتوي على معلومات عن العرب الذين بقوا في اسرائيل وعن الأقليات اليهودية في البلاد العربية وعن الاجتماعات والاتصالات مع اسرائيل ومصر وحكومة الولايات المتحدة. وكانت الأخيرة تتابع ملف اللاجئين بدقة من خلال دورها في لجنة التوفيق الدولية. ويشمل الملف ايضا احصاءات عن اللاجئين في مراحل مختلفة ومحاولة إعادتهم إلى ديارهم، كما يحتوي على عدة كتيبات للشهادات التي أخذت من ضباط الكويكرز في اوائل التسعينات عن تجاربهم في غزة قبل 40 عاماً.
وفي النصف الأول من عام 1949، قدر الكويكرز عدد اللاجئين في غزة بعدد 230,000 لاجئ من بينهم 55,000 في رفح، 40,000 في خان يونس، 16,500 في دير البلح، 13،000 في البريج، 13,500 في النصيرات، 2,500 في المغازي، 8,500 في جباليا والنزلة وبيت لاهية 1,000 في الفالوجة. وقد وصل مجموع اللاجئين في قطاع غزة إلى 248،000 في 15/5/1949.
لقد كان تعاطف الكويكرز مع اللاجئين كبيراً، خصوصاً بعد معايشتهم والإطلاع يومياً على أحوالهم ومعاناتهم. ولا غرابة في ذلك لان الكويكرز جماعة دينية تؤمن بالسلام وتكره الحرب وما ينتج عنها من دمار.
وفي منتصف القرن العشرين، لم تكن الاتصالات والاذاعات كما هي عليه الآن. فكان العالم الذي أتي منه الكويكرز مختلفاً تماماً عن عالم شعوب العالم الثالث الذي وجدوا فيه اللاجئين. لكنهم اجتازوا الصدمة الثقافية بسرعة. والدليل على هذا التقرير الذي أرسله أحد ضباط الكويكرز إلى رئيسه في فيلادلفيا عام 1949:
"حيث أنه من الصعب على اللاجئين التواصل مع العالم الخارجي، نشعر أن علينا واجب نقل آرائهم وتفكيرهم في الوقت الراهن. هم يشعرون بقوة أن الأمم المتحدة مسئولة عن مصابهم ولذلك فعليها كامل المسئولية في إطعامهم واكسائهم وايوائهم وإعادتهم إلى ديارهم. هذا بالاضافة إلى شعور الكثير منهم أن الدول العربية خذلتهم أيضاً. وبعضهم يشعر أنهم لو تركوا لشأنهم لأمكنهم الوصول إلى حل مع اليهود [!].
وأعلى من أي اعتبار آخر، فإنهم يرغبون في العودة إلى ديارهم، إلى حيث توجد أراضيهم وقراهم، والتي هي قريبة جداً في كثير من الحالات. هذه الرغبة من الطبيعي أن تستمر في كونها أقوي مطالباتهم، رغم مضي ستة عشر شهراً من النفي، فإن ذلك لم يخفف من حدة هذه المطالبة. وبدونها يقولون إنه ليس لدينا رغبة في العيش. إنهم يعبرون عن ذلك بكلمات مختلفة ووسائل مختلفة كل يوم، من أحدها قولهم "لماذا تبقوننا أحياء" [بإطعامكم لنا]. إنه شعور أصيل صادق وعميق كما يمكن أن يكون حنين أي إنسان إلى وطنه".
هذه الرسالة المؤثرة تبين مدي صدق مشاعر اللاجئين عن المطالبة بحق العودة إلى الوطن. ولعل أبلغ دليل على صدقها أنها لا تزال مطلب اللاجئين الأول، ليس فقط بعد ستة عشر شهراً من النفي، بل بعد 58 عاماً ايضاً.
وتكشف وثائق الكويكرز حقيقة أخرى، هي أن الولايات المتحدة التي كانت عضوا في لجنة التوفيق الدولية المكلفة بتطبيق حق العودة حسب قرار 194 قررت في منتصف 1949 الخضوع لمشيئة اسرائيل في منع عودة اللاجئين، وهو القرار الذي أعلنته اسرائيل رسمياً مباشرة بعد إعلانها الدولة أي قبل سنة من هذا التاريخ. ولذلك فقد بدأت الولايات المتحدة في إتخاذ الخطط السرية للتخلص من اللاجئين بتوطينهم في بلاد أخرى، رغم أنها كانت تعلن رسمياً للدول العربية وفي الامم المتحدة التزامها بقرار 194.
لقد كشفت ملفات الكويكرز هذا السر. هناك تقرير عنوانه: "سري: تقرير عن اجتماع مع وزارة الخارجية، واشنطن، في 1949/6/15 حول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين".
يقول التقرير أنه دعي إلى هذا الاجتماع 35 شخصاً يمثلون جمعيات الاغاثة والكنائس والكويكرز و12 شخصاً يمثلون شركات البترول في المنطقة وشخصان يمثلان شركات المقاولات والشحن وعدد من موظفي وزارة الخارجية.
اولا:ً يجب استثناء مصر ولبنان من مشاريع التوطين. وقال ان قدرة وادي الاردن على الاستيعاب محدودة، لكنها جيدة في سوريا وممتازة في العراق مع وجود عائقين: الاول ان مشاريع الري في العراق لا تزال متأخرة ويمكن تطويرها خلال عدة سنوات بالدعم المادي. والثاني: ان استيراد العرب السنة من فلسطين سيثير مشاكل مع العرب الشيعة هناك.
وتفيد التقارير الأخرى أن الولايات المتحدة رغم ادعائها علانية بالالتزام بقرار 194 والتصويت لصالحه، الإ أنها كانت تعمل دائماً على خطط لتوطين اللاجئين، كما هي سياسة اسرائيل. ونعلم أن اللاجئين ثاروا على مشاريع التوطين منذ أوائل الخمسينات وحرقوا الطعام الذي تقدمه لهم الأمم المتحدة. وليست المفارقة فقط في أن الشعب الفلسطيني أدرك بحسه منذ الخمسينات الخطط السرية التي تحاك ضده لحرمانه من وطنه، قبل قراءة ملفات الكويكرز، إلا انه أيضا يقاوم اليوم بنفس الشدة مشاريع التوطين والإبادة، ويطالب بحقه في العودة كما لو كانت 58 عاماً هي 58 يوماً فقط.
مصادر جديدة
لا يزال تاريخ النكبة يحتاج إلى توثيق أعمق وأشمل. ونحن نحتاج اليوم إلى دراسة موسعة للمراسلات الانجليزية والامريكية بين السفارات والحكومات، التي أصبحت متاحة الآن. كما نحتاج الآن إلى دراسة المراجع العبرية، المنشورة في كتب أو الموجودة في الارشيف، وبعضها يسرد بصراحة جرائم اسرائيل. وكانت اللغة العبرية عند العرب طلسماً اشبه بشفرة سرية، ولكن لدينا الآن عدد كبير من الباحثين الذين يتقنون العبرية.
كما نحتاج إلى دراسة أوسع لكيفية تحديد خط الهدنة الذي مزق أراضي 111 قرية في الضفة وغزة، ومن حدده وكيف ولماذا وهل تغير. لقد بينت دراستنا في مكان آخر أن اسرائيل سرقت 21 كيلوا مترا مربعاً من قطاع غزة، الصغير أصلاً، بتحريك خط الهدنة، خلاف ما نصت عليه اتفاقية الهدنة، وذلك بموجب اتفاق سري باسم "اتفاقية التعايش" عام 1950.
ونحتاج ايضا إلى دراسة دور بعض الساسة العرب في تطور الاحداث اثناء النكبة وبعدها، ونحن نعلم الكثير عن بعض الادوار المشهورة، لكننا نعلم القليل عن أين ومتي ولماذا قاموا بهذه الادوار، ليس من أجل التاريخ فقط، بل من أجل المستقبل ايضا.
كما نحتاج إلى بعض الشجاعة في كشف أدوار بعض البورجوزايين وأصحاب النفوذ التقليديين في بعض مدننا الفلسطينية الذين تعاونوا سياسياً ومالياً مع الصهيونية لحماية مصالحهم الذاتية ضد مصالح الوطن، وهؤلاء غالباً هم نفس الاشخاص الذين تعاملوا مع الانظمة العربية ضد مصلحة فلسطين.
ونحتاج إلى كثير من الشجاعة في كشف أدوار العملاء والجواسيس وسماسرة الاراضي الذين ساعدوا على حدوث النكبة، ووقع مئات الالاف من اللاجئين ضحايا لأعمالهم. وهذا الموضوع لا يزال حياً إلى اليوم رغم اختلاف المسميات والظروف والتبريرات. فالخيانة، مثل الموت، واحدة وإن تعددت اسبابها.
لكن مستقبل هذا الشعب بخير، وإن طال عذابه. ولست أجد أبلغ مثال على ذلك من رسالة الكويكرز الصادرة من غزة في اكتوبر 1949 إلى الرئاسة في فيلادلفيا، تذكر حنين اللاجئ إلى وطنه وعزوفه عن إطعامه وايوائه من أجل العودة إلى الوطن، وعمق مشاعره الانسانية نحو بيته بعد 16 شهراً من النفي، ومقارنة ذلك بمشاعر ابنه وحفيده بعد ثلاثة اجيال أو أربعة، بعد 58 عاماً من النكبة، تلك المشاعرالتي تكاد تكون نسخة من مشاعر الجد، وإن زاد عليها انتشار التعليم، وارتفاع الوعي السياسي، وانتظام الفلسطيني في مؤسساته الوطنية والشعبية في فلسطين وفي شتي بلاد العالم، وارتفاع عدد المطالبين بحقهم في العودة من 900,000 إلى نحو ستة ملايين.
لقد طالت الغربة ولكن زاد معها العزم على العودة أضعافاً. ومن أجل هذا الهدف السامي، يجب توثيق النكبة، ليس فقط لتسجيل الماضي، بل ايضا من أجل وضع الخطة لتحقيق العودة إلى الوطن في المستقبل القريب.