في يوليه 1949 وفي نفس الأسبوع الذي وقّعت فيه إسرائيل آخر اتفاقية هدنة مع سوريا، جمع بن جوريون فريقاً من بضع عشرة خبراء في الجغرافيا والمساحة والتاريخ والتوراة وطلب منهم إتمام العملية الثالثة والأخيرة في حرب 1948 / 1949.
العملية الأولي عسكرية بدأت في مارس 1948 وغرضها الغزو الصهيوني لفلسطين وانتهت في مارس 1949 بعد أن احتلت إسرائيل 78% من فلسطين انطلاقاً من قواعد زرعتها في فلسطين بمساعدة الانتداب البريطاني في الفترة (1920 – 1948)، ولم تكن تتجاوز مساحة الأرض اليهودية فيها 5% من مساحة فلسطين الكلية.
وهكذا بالتنظيم الصهيوني المخطط له سابقاً وتفوق إسرائيل على العرب في تلك الحرب عدداً وعدة، وتفرق شمل العرب واختلاف قياداتهم، بل ومطامع بعضهم في فلسطين نفسها، تمكن الإسرائيليون من الاستيلاء على أربعة أخماس أرض فلسطين بالقوة العسكرية دون سند قانوني أو أخلاقي.
أما العملية الثانية التي سارت جنباً إلي جنب مع العملية الأولي واستمرت بعدها لفترة طويلة حتى يومنا هذا فهي عملية التنظيف العرقي لأهل البلاد وذلك بطرد الأهالي من ديارهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، بعد أن استولت على أرضهم. لقد هجّرت إسرائيل أهالي 675 مدينة وقرية فلسطينية، واقترفت ما لا يقل عن 73 مذبحة ومثلها من الفظائع، ودمرت بيوت حوالي ثلثي القرى المهجّرة، وحرقت محصولاتهم وسممت آبارهم وقتلت فوراً كل من حاول العودة إلى بيته ووصفته بالمتسلل.
لقد اقترفت إسرائيل كل جرائم الحرب الموصوفة في القانون الدولي، وذلك في أكبر وأنظم وأطول عملية تنظيف عرقي في التاريخ الحديث. ولا عجب إذن أن يسمي هذا الحدث الجلل "بالنكبة" في وجدان كل فلسطيني وعربي ومسلم. وفي ذكري النكبة في مايو كل عام يحتفل الإسرائيليون بما يسمونه "عيد الاستقلال"، أي إنشاء إسرائيل على أنقاض فلسطين بعد الاستيلاء على الأرض وتفريغها من أهلها.
لكن بن جوريون لم يكتف بذلك. كان يؤرقه أن هذه الأرض تشهد على تاريخ أهلها الذي يمتد إلي خمسة آلاف عام، شهادة مسجلة في أسماء مدنها وقراها، وأنهارها ووديانها، وآبارها وينابيعها، وهضابها وتلالها، ومروجها وكرومها وبساتينها، وقلاعها وحصونها، ومواضع أحداثها وانتصاراتها ونكباتها؛ من استشهاد زعيم إلي زفاف فتاة مشهود لها بالجمال إلى عثرة فرس قائد إلى "طوشة" بين قريتين انتهت بصلح، هذا عن العلامات البارزة في التاريخ العربي مثل حطين وعين جالوت وتل نابليون والقسطل (حيث استشهد عبد القادر الحسيني).
هذا الرصيد المعنوي الهائل وهذا التراث العريق وهذه الأصول الضاربة في عمق التاريخ هي أبجدية سيرة الشعب الفلسطيني وسجل أرشيفه الوطني. ولذلك رأي بن جوريون ضرورة إزالته حتى لا تواجهه أشباح الضحية ومعالم آثارها، حتى لو استولي على الأرض وطرد أصحابها وقتلهم.
هذه هي العملية الثالثة التي ختم بها بن جوريون حرب 1948 وعام النكبة. لقد أمر بن جوريون ضباطه وخبرائه بمحو كل هذه الأسماء الفلسطينية سواء كانت عربية إسلامية ومسيحية أو ما قبل ذلك من كنعانية ويبوسية وعمورية وغيرها، واستبدالها بأسماء عبرية.
بدأت اللجنة عملها ووضعت أسماء عبرية لكل هذه الأماكن وحاولت محاولة يائسة لإعطاء مصداقية تاريخية لها فلم تنجح إلا في خمسة في المائة من الأسماء. أما باقي الأسماء فهي إما محّرفة أو مترجمة عن الاسم العربي.
كان لا بد إذن من استعادة التاريخ المدفون، والجغرافيا المطموسة. وكان لا بد من البدء في مسيرة استمرت أكثر من عشر سنوات، وقبلها سنوات أخرى للاستكشاف وجمع الوثائق، لإصدار "أطلس فلسطين 1948".
لم يكن الأمر صعباً من حيث المبدأ. ففلسطين دائماً كانت مطمع المستعمرين والمستوطنين الأوربيين. وبينما كان الناس في بلاد العرب والمسلمين لا يحفلون كثيراً بتسجيل جغرافيتهم، عدا بعض الإعلام من الرحالة العرب، كان الغرب فيما بعد عصر النهضة يجوب البلاد والبحار يرسمها ليرفع علمه عليها.
وعندما غزا نابليون بلاد الشام عام 1801 وتوقف عند عكا ثم نكص على أعقابه، كان من ضباطه مساح هو "جاكوتان"، الذي ترك لنا أول خريطة لفلسطين رسمت على أساس علمي صحيح. وتبعه ضباط وجواسيس ومغامرون في القرن التاسع عشر من كل أوربا، رصدوا وسجلوا كل مكان في الأرض المقدسة، والغرض المعلن هو التحقق من صدق الكتاب المقدس جغرافياً وتتبع خطوات السيد المسيح، لكنه تحول في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى هدف غير معلن هو الاستيلاء على فلسطين.
ففي عام 1871 أرسلت بريطانيا بعثة مساحية إلى فلسطين عملت فيها 4 سنوات وفي لندن 4 سنوات أخرى لرصد النتائج، وأصدرت عام 1888، ما مجموعه 10 مجلدات عن قرى فلسطين وآثارها وطيورها ونباتاتها وعن القدس وكذلك 26 خريطة تفصيلية عن كل فلسطين.
كانت هذه الخرائط ثروة لا تقدر بثمن, وأصبحت المصدر الأول للمعلومات الذي أعتمد عليه اللنبي عند بداية احتلاله فلسطين عام 1917.
وعند احتلال الإنجليز لمصر عام 1882 استزادوا في السنوات التالية من الخرائط المساحية لتغطية جنوب فلسطين وسيناء وشرق الأردن، وطوروا مصلحة المساحة المصرية. ولا عجب أن الغزو البريطاني لفلسطين الذي أنطلق من مصر قامت به ما سمي "بالحملة المصرية" Egyptian Expeditionary Force
لكن سنوات الانتداب (1920 – 1948) كانت هي الفترة الحاسمة للتوثيق الجغرافي لفلسطين. وهو عمل، وإن لم يتم بمغادرة الإنجليز غير المشرفة لفلسطين عام 1948، إلا أنه يبقي أكبر وأهم سجل للملكية والأرض والناس في فلسطين.
كان هناك اهتمام غير عادي للاستعمار الإنجليزي بتوثيق فلسطين. والسبب هو الإلحاح المستمر لوايزمان، بعد إعلان وعد بلفور مباشرة، على الحكومة البريطانية أن تسجل كل قطعة أرض في فلسطين واستعمالاتها ومالكها ومدي سلامة ملكية الأرض. والغرض هو تسهيل استيلاء حكومة الانتداب البريطانية على أية أرض في فلسطين لا يستطيع مالكها أن يثبت بالدليل المكتوب من العهد العثماني أنه صاحب الحق فيه، وبذلك تتحول هذه الأراضي للاستيطان الصهيوني حسب المادة السادسة من صك الانتداب. وحيث أن معظم الأراضي في فلسطين، مثلها مثل مصر وسوريا، مملوكة إما بوثائق قديمة أو بمراسم عثمانية أو بحكم العرف والعادة، والأخير هو الأغلب، فإن هذا فتح شهية الصهاينة للاستيلاء على مساحة كبيرة من الأراضي. لكنهم لم ينجحوا. ذلك أن مقاومة الشعب الفلسطيني وثوراته أبقت الغالبية الساحقة من الأراضي في أيد عربية، إلى أن استولي عليها الغزو الصهيوني عام 1948. ومن هنا فإن توثيق الحقوق في فلسطين أصبح مهمة وطنية بالغة الأهمية
وعلى الرغم من الرصيد الكبير لتوثيق فلسطين في بلدان الاستعمار الأوربي إلا أنه لم يكن معروفاً أين هي الوثائق لكثرتها وتعدد أماكنها، ولا متاحاً لباحث منفرد لا يحمل صلاحية رسمية يجبر بواسطتها الحكومات على فتح ملفاتها المغلقة.
كان لابد إذن من البدء في مسيرة طويلة متأنية استغرقت عدة سنوات شملت زيارة استانبول ولايبزج وميونخ وبرلين وباريس ونيويورك (الأمم المتحدة) وواشنطن والقدس، وأماكن عديدة في بريطانيا صاحبة الانتداب.
وبالطبع كانت هناك مشاكل عديدة. بعض المصادر أقفلت الأبواب في وجه الباحث. وبعضها طلب أذونات رسمية لا يمكن الحصول عليها. وبعضها تعاون إلى حد وتوقف بعد حين. لكن حصيلة السعي أثمرت عدداً كبيراً من الخرائط والوثائق التي تغطي معظم المواضيع بل ويؤيد بعضها البعض الآخر. وهكذا ولد "أطلس فلسطين 1948".
يسجّل "أطلس فلسطين 1948" سكان فلسطين وأرضها في فترة الانتداب، وعام النكبة وما تبع ذلك من تمزيق لفلسطين وأهلها في تفصيل دقيق.
يقع الأطلس في 450 صفحة ملونة كبيرة (50سم X35سم) ويشمل قسمين كبيرين. القسم الأول هو عرض وتحليل للمعلومات الواردة في الأطلس وتشمل الآتي: كيف نشأ الانتداب البريطاني وأدخلت فيه المؤامرة الصهيونية البريطانية لتحويل فلسطين إلى وطن يهودي الذي أصبح دولة يهودية، وكيف شجع هذا الانتداب الهجرة اليهودية إلى فلسطين تحت مظلة بريطانية، ثم اقتراح الأمم المتحدة تقسيم فلسطين (إذا وافقت الأطراف المعنية)، بحيث حصل اليهود على 11 ضعفاً للأراضي التي امتلكوها تحت الانتداب، ثم كيف نشأت حدود فلسطين مع مصر ومع سوريا ولبنان ومع شرق الأردن وكلها حدود خططها الاستعمار دون مشورة أهل البلاد.
ويشمل هذا القسم أيضاً تفصيلاً كاملاً لأكثر من 1300 قرية ومدينة وعدد سكانها ومساحة أراضيهم وحدودها وتواجد اليهود إن كان بينهم يهود، وما هي المساحة الحقيقية للأرض التي أمتلكها اليهود ومن أين ومتى، وما هي قوانين الأراضي التي سنتها حكومة الانتداب، وما معني الأملاك العامة أو أملاك الدولة، وقسم خاص عن الأراضي في بئر السبع.
ويشمل هذا القسم أيضاً تفصيلاً كاملاً عن النكبة وعن الأراضي والقرى التي احتلتها إسرائيل واللاجئين الذين طردتهم شهراً بشهر خلال الحرب ابتداء من ديسمبر 1947 حتى يوليه 1949 وكيف نشأت خطوط الهدنة ومعناها القانوني ومساحة الأراضي التي اقتطعت من كل قرية مر بها هذا الخط.
ويشمل هذا القسم أيضاً إحصاء كاملاً للطرق والسكك الحديد والمطارات والمواني والمباني الحكومية والعامة والأماكن المقدسة من مساجد وكنائس ومقابر وأضرحة والآبار والينابيع والخزانات والسجلات الحكومية والخرائط والوثائق التي استولت عليها إسرائيل عام النكبة.
كما يشمل أيضا إحصاء للفلسطينيين سواء اللاجئين أو المواطنين وأماكن تواجدهم في العالم.
وهذه المعلومات توضح لنا حقائق كثيرة كنا نعلمها بشكل عام ولكننا لم نكن نعلم مقدارها. يوثق الأطلس مساحة فلسطين البالغة 26،322،999 دنم (الدنم 1000 متر مربع) بما فيها مساحة الأرض اليهودية في ظل الانتداب البالغة 1،429،062 دنم، كما يرصد اسم ومكان المنشآت العسكرية في فلسطين (31 مطاراً و37 معسكراً) وأطوال الطرق (3،200 كم درجة أوليو 22،500 كم طرق فرعية)و 650 كم من السكك الحديديةو 2،200 مبني حكومي أو تعليمي أو صحيو 3،600 مصدر من مصادر المياه (أبار أو ينابيع أو خزانات) وكذلك 1،990 مكاناً مقدساً (مسجد، كنيسة، كنيس، مقبرة، ولي أو ضريح). وكل هذا فقط في الجزء من فلسطين الذي احتله الصهاينة عام 1948 / 1949 وسموه إسرائيل. هذا عدا الثروات الطبيعية على الأرض وتحتها.
لقد كانت هذه أعظم عملية نهب منظمة بنيت على أساسها دولة الغزاة. لقد استلمت إسرائيل في صباح 1948/5/15 كامل البنية التحتية لحكومة جاهزة بمكاتبها وسجلاتها وخدماتها التي كانت تسمي حكومة فلسطين، ولم يغب عن هذه الحكومة إلا أهلها الفلسطينيون.
أما القسم الثاني من الأطلس فهو يشمل خرائط فلسطين التي استولت عليها إسرائيل عام 1948 والتي تنتشر على مدي 350 صفحة ملونة بمقياس رسم 1: 20,000، وتبّين أصغر مكان في أصغر قرية مثل كرم أبو سالم وعين البيضا وجميزة الشيخ علي. وبالإضافة إلى بيان 1،300 مدينة وقرية، فإن الأطلس يبّين 11،000 معلماً تاريخياً ودينياً وحضارياً وطبيعياً، كما أنه يبّين 20،000 اسم مكان حول كل قرية ومدينة. كما يبّين لأول مرة تفصيلاً كاملاً لعشائر بئر السبع وحدود أراضيهم.
والمدهش حقاً أن هذه المعلومات ليست خطوطاً ونقطاً فقط، ولكنها تنبض بالحياة لان المطلع على الأطلس يري بعينيه أكثر من 2500 صورة جوية لمساحات شاسعة من فلسطين أخذها سلاح الجو البريطاني عامي 1945 – 1946 قبل مغادرته فلسطين، وترك لنا صوراً ناطقة للمدن والقرى والحقول والبساتين تضيف شهادة واقعية على حياة أهل فلسطين قبل الشتات. وهناك معلومات مفصلة أخرى على موقع هيئة أرض فلسطين www.plands.org
إذا كان الاستعمار قد استعمل الخرائط منذ القرن الثامن عشر كوسيلة لتحديد مناطق نفوذه وإعلان سيادته على رقعة من العالم الثالث ورفع علمه عليها، فإن واجب أهل البلاد المستَعْمرة أو المحتلة أن يسجلوا بالخرائط شهادة ميلاد بلادهم وأن يوثقوا هوية الوطن. وفي حال فلسطين فإن الواجب الوطني هو توثيق هوية الحق الذي سُلب وأحياء الجغرافيا التي طمسها الغازي.
لكن هناك سبباً أهم لهذا التوثيق. فهو ليس مجرد سجل للماضي، بل هو أساس لوضع خطة عودة أصحاب الأرض إلى ديارهم، وهو قاعدة معلومات هامة في عصر الحاسوب والأقمار الصناعية، لاستعادة الأرض في كل قرية ومدينة ومعرفة أصحابها على أسس علمية. ولا يكفي بعد اليوم أن نعتمد على رواية جد لأحفاده. فالتوثيق لا يعتمد على عمر إنسان، بل هو يبقي وثيقة لكل الأجيال.
ومهما حدث في فلسطين من تغيرات عمرانية أو سكانية بعد احتلال إسرائيل لها، وهي الآن كلها مسجلة على الأرض وبالأقمار الصناعية، فإنه بالاعتماد على قاعدة معلومات كاملة مثل هذا الأطلس يمكن استرجاع كل شبر في فلسطين. وهذه مهمة تقع على هذا الجيل والأجيال القادمة، إلى أن تتحقق العودة.