طلعت علينا الأخبار خلال الأسابيع الماضية بقصة تدمير قرية العراقيب في قضاء بئر السبع على يد ألف رجل شرطة إسرائيلي ومعهم أسلحتهم التدميرية. ولعل بشاعة التدمير وعنجهية الغازي الصهيوني هى التى دفعت بهذا الخبر إلى الصفحات الأولي، رغم أن عملية التدمير وطرد أهالي بئر السبع الفلسطينيون كانت مستمرة على مدى العقود الماضية.
وتزامن هذا الخبر مع القضية التى وصلت إلى أعمدة الصفحات الإسرائيلية وهى القضية التى رفعها نورى العقبى (68 سنة) رئيس جمعية حماية حقوق البدو في بئر السبع أمام محكمة بئر السبع لاسترجاع أرضه التى سلبها منه الغازي الصهيوني.
لكن هذه القضية لم تشغل بال المسئولين الفلسطينيين والعرب بالشكل الكافي، مع أن الأراضي التى تستولى عليها إسرائيل في قضاء بئر السبع أكبر من مساحة الضفة الغربية بأكملها، ورغم أن طرد الأهالى من ديارهم وتدمير بيوتهم وقتل مواشيهم ورش مزارعهم بالمبيدات القاتلة يعنى أن نكبة عام 1948 لا تزال ماثلة للعيان في بئر السبع وتطبق بكل حذافيرها هناك في يومنا هذا.
الحجة التى تقدمها حكومة إسرائيل للمحاكم عنصرية إلى أقصى الحدود. فهى تقول أن هذه الأراضي ليس لها صاحب، فهى أرض قفر، خلاء، "موات". وأنه ربما كان هناك بعض الرعاة الذين جاءوا من السعودية ليرعوا أغنامهم ثم عادوا إليها.
ومبدأ أن الأرض قفر ليس لها صاحب (Terra nullius) هو المبدأ الاستعماري العريق الذى طبقه المستوطنون الإنجليز في أمريكا الشمالية واستراليا وبعض اجزاء أفريقيا، وهو المبدأ الذى تم التراجع عنه إلى حد ما، بعد قرنين أو ثلاثة من الاستعمار، في تسوية تجميلية لجرائم الغرب في تلك البلاد، بأن اعتذرت دول تلك البلاد عن المظالم التى اقترفتها، وأصدرت قوانين تضفى بعض الحدود على السكان الأصليين (Natives).
وقد بلغت الوقاحة بالمنظمة الصهيونية أن قدمت إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919، خريطة فلسطين، لتبرر الموافقة على وعد بلفور، وأضافت على الخريطة خطوطاً تغطيها، وكتبت عليها "مراعي" (Grazing) طامسة بذلك حوالى 1,000 مدينة وقرية فلسطينية، معظمها قديم عمره آلفى سنة وأكثر. ولكن هذا التزييف أتى أكله فوافقت عصبة الأمم على اعطاء وصاية الانتداب على فلسطين لبريطانية، متضمناً وعد بلفور.
فهل أرض فلسطين قفر لا صاحب لها؟ وهل يجوز لإسرائيل أن تعتبر أى قطعة أرض في فلسطين أرض قفر (موات) ما لم يوجد لهذه القطعة من الأرض طابو أو تسجيل في دائرة الأراضي؟ أى هل تقبل القاعدة الإسرائيلية التى تقول إن الأرض كلها (موات) ما لم يثبت العكس بشكل قاطع. لقد طبقت إسرائيل هذه القاعدة، ليس على أراضى بئر السبع فقط، التى لم تسجلها بريطانيا، بسبب هروبها من مسئولياتها في فلسطين، ولكن على أراضي كثيرة في الجليل والمثلث، في الأراضي الواقعة بين القرى مثل الوعر وأراضي الحمى. ولا تزال تطبقها اليوم بشكل واسع على أراضي الضفة الغربية وتعتبرها أراضى دولة، وتزرع فيها المستوطنات.
لو كنا في فلسطين قبل وعد بلفور، أو لو كنا في الأردن أو سوريا أو لبنان لما احتجنا إلى إثبات أن الأرض عربية يملكها أهلها بحكم العادة ووضع اليد الطويل الأجل، سواء كانت مسجلة أم لا، سواء كانت ملكاً فردياً أو ملكاً عاماً لمجموع القرية.
ولكننا في فلسطين محتاجون، بعد أن أعوزنا السلاح والقوة للاحتفاظ بأرضنا، أن نلجأ إلى التاريخ والقانون، لإثبات هذا الحق البديهى، الذى لا ينكره إلا الطامع في هذه الأرض.
فما هى حيثيات حق الفلسطينيين في أرضهم وخصوصاً تلك التى لم تكمل بريطانيا تسجيلها في دائرة الأراضي؟
العهد العثماني
في القانون الإسلامي الأرض ملك للأمة، للأنتفاع بها، ولكنها تبقى ملكاً لمجموع الأمة، والحارس عليها هو الخليفة أو السلطان. ولذلك فإن أصل الملكية (الرقبة) يعود إلى السلطان، أما (التصرف) أو (المنفعة) فإنها تعود إلى الافراد. فإذا ما فلحوا الأرض واستفادوا منها، دفعوا أجرها أو ضريبتها. وفى واقع التطبيق لم تكن هناك حاجة لتسجيل الأرض، إلا في حالة البيع والشراء والارث فيلزم لذلك تحديد العقار، وغالباً ما يكون وصفياً، بحدود الجار أو أحد المعالم.
وبعد سنوات قليلة من بسط سيادة العثمانيين على بلاد الشام ومصر، فرضت الدولة الضرائب على الأراضي. ولدينا هنا وثيقة نادرة هى (دفتري مفصل) وهو دفتر الضرائب العثمانية الصادر عام 1569. ونجد فيه أن الأراضي التى تدعى إسرائيل في محكمة بئر السبع أنها قفر لا صاحب لها، هى في الواقع أراضي مفتلحة يعيش عليها أهلها ويدفعون عنها الضرائب. ونذكر على سبيل المثال، خربة الجعيثنى، التى هى أرض بنى عقبة اثناء الانتداب، كان يسكن فيها في القرن السادس عشر 43 عائلة وعليهم ضريبة قمح 6,250 أقجة، وضريبة شعير 2,940 أقجة، وضريبة محاصيل صيفية 2,184 أقجة.
وفي عام 1858 صدر قانون الأراضي العثماني الذى صنف الأراضي وحدّد الحقوق فيها، وذلك جزء من حركة التحديث التى أدخلتها الحكومة العثمانية في القرن التاسع عشر.
ما يهمنا في هذا المجال هو المادة التى تستخدمها إسرائيل لسلب الأراضي الفلسطينية، وهى المادة 103 التى تصف الأرض (الموات) كالآتى: "إن الأراضي الخالية كالأكام والأراضي المحجّرة والأحراش وأماكن العشب (المراعي) التى ليست بتصرف أحد بالطابو وغير مخصصة من قديم لأهالي القصبات والقرى، وبعيدة عن القصبات والقرى بحيث لا تسمع بها صيحة الشخص الجهير الصوت من أقصى العمران، هى أرض موات".
وقد قدر خبراء الأراضي أن أراضي القفر (الموات) هى التى لا يسكنها أحد على بعد لا يقل 2.5 كم من أى مكان معمور، أو مسافة مسيرة حصان لمدة ثلاثة أرباع ساعة.
وجاء في قانون الأراضي العثماني أن من أحيا قطعة من هذه الأرض القفر بعد الحصول على ترخيص، أى حرثها وزرعها، فإنه يحق له أن يسجلها بإسمه في الطابو دون دفع مقابل. أما إذا أحياها دون الحصول على ترخيص، فإنه يحق له تسجيلها باسمه مقابل دفع "بدل مثل". أما لو حصل شخص على ترخيص لاحياء أرض، ولم يعمل بها شيئاً لاصلاحها خلال 3 سنوات دون عذر مقبول فإنها تسحب منه.
والحكمة في هذا واضحة. وهو أن الدولة تشجع تعمير الأرض القفر، فائدة لمعيشة الناس، ودخل لبيت المال.
ومن الواضح من دفاتر الضرائب العثمانية أن أراضي بئر السبع لم تعتبر "مواتا". فكل أراضيها كانت مفتلحة في حدود سقوط الأمطار بمعدل 100 مم في السنة وهى التى الأراضي التى تصلح لزراعة الشعير، وفي حدود سقوط الأمطار بمعدل 200 مم في السنة وهى التى تصلح لزراعة القمح. وهذه المنطقة الواسعة هى التى كان يسكنها 95% من أهالى بئر السبع. وحدودها الشمالية والشرقية قرى غزة الساحلية، وحدودها الجنوبية خط أفقى يصل ما بين عوجا الحفير والبحر الميت.
ورغبة من السلطات العثمانية في تثبيت أحقية الأهالى في أراضيهم، بجانب ملكيتها حسب العرف والعادة، أرسلت بعثة عسكرية في 1891/5/4 لتحديد أراضي "العربان". كانت البعثة عسكرية لان القدس وجنوب فلسطين كانت تابعة لوزارة الداخلية في استنبول مباشرة.
جاء في تقرير البعثة العسكرية ما يلى :
عاينت البعثة أراضي بئر السبع بمساعدة لجنة من خمسة وجهاء لتحديد أراضي كل قبيلة بمعرفة المسئولين الرسميين في متصرفية القدس. وقد تم تحديد 5 مليون دنم من أصل 10 مليون في القضاء، وذلك باسم أصحابها من قديم الزمان، وذلك بعد موافقة اللجنة العسكرية الخاصة وموافقة الشيوخ على ذلك.
وقد استمر الاعتراف بملكية الأراضي في بئر السبع بحكم العرف والعادة، بشكل نظامي حتى احتلال اللنبي لفلسطين. ونجد في أرشيف المحكمة الشرعية في القدس في الاعوام 1906-1908 دليلاً على ذلك، مثل عدة وكالات صادرة من المحكمة للمحامي سليم بن عيسى البطارسة وكيلاً عن الشيخ إسماعيل أبو محفوظ للمطالبة بملكيته لأرض في خربة أبو سدر ضد الدعوى المقدمة من الشيخ حماد الصوفي، ومثلها عن أرض في خربة مليح. وهذه الأراضي في قضاء بئر السبع، كما أن المتخاصمين من أهاليها.
عهد الانتداب
جاء هربرت صمويل، أول مندوب سام بريطاني، يعتمر قبعة الوصاية البريطانية للانتداب على فلسطين، لكنه في الواقع مسئول صهيونى لتسليم فلسطين لليهود. وفي عهده (1920-1925) وضع الأساس القانوني لاقامة دولة إسرائيل وذلك باعتبار اللغة العبرية لغة رسمية وبالاعتراف بتمثيل نيابى مستقل لليهود (الوكالة اليهودية)، ونظام تعليمى مستقل، ونظام بنكى خاص بهم، ونواة وزارات الاشغال والطاقة والمياه، ونواة جيش الهاجاناة. ومن أخطر ما قام به صمويل هو إصدار أكثر من مائة قانون معظمها موجه لتسهيل انتقال الأراضي إلى اليهود.
من أخطر هذه القوانين نقض المادة 103 من قانون الأراضي العثماني. فبينما كان هذا القانون يشجع احياء الأرض ويقدم الحوافز لذلك، أصدر صمويل قانون بتجريم كل من يحيى أرضاً موات.
أولاً اعتمر هربرت صمويل أيضاً عمامة السلطان وأصبح قائداً للأمة الإسلامية يتصرف بأرضها، ليس لمصلحة هذه الأمة، بل لمصلحة المهاجرين الصهاينة. فأصدر قانون الأراضي الموات لعام 1921، والذى يقضى بأن كل من يحيى أرضاً (موات) فلن تسجل له ملكيتها، ويعاقب على هذا العمل كمعتد على الأرض. أما من أحيا الأرض وفلحها منذ القديم، فأن عليه أن يسجل هذه الأرض خلال شهرين من إصدار القانون في دائرة الأراضي مع طلب الحصول على الطابو لاثبات الملكية. وهذا معناه أن التسجيل يجب أن يتم قبل يوم 18/4/1921.
وحيث أن أحداً لم يعلم بأن أرضه التى عاش عليها مئات السنين واجبة التسجيل لدى حكومة الإنجليز خلال أجل قصير جداً، وإلا فقدها، وإن علم، لم يكترث بهذه التعليمات الحكومية الأجنبية، فلم يسجل أحد أراضيه بموجب هذا القانون.
لكن الذى قصم ظهر صمويل وسكرتيره القانوني الصهيونى نورمان بنتوتش، أن ونستون تشرتشل، وزير المستعمرات، زار فلسطين، وقابل شيوخ بئر السبع، واخبرهم بأن بريطانيا تعترف بحقوقهم وعاداتهم، وشجعهم على تسجيلها دون رسوم.
وفي واقع الأمر، ان بريطانيا خلال فترة الانتداب كلها لم تنفذ قانون صمويل الذى عدل فيه المادة 103 من القانون العثماني، ولم تسحب أرضاً من صاحبها حسب هذا القانون.
العهد الإسرائيلي:
يمكن اختزال الممارسات الإسرائيلية في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين خصوصاً في قضاء بئر السبع، في قضية العراقيب التى هدمت إسرائيل منازلها للمرة الخامسة في منتصف شهر سبتمر 2010، وأعاد أهلها بناؤها أربع مرات قبل ذلك. وقضية العراقيب نفسها ممثلة في دعوى نورى العقبى ضد دولة إسرائيل مطالباً باستعادة أرضه.
وقبل الدخول في تفاصيل هذه القضية، تجدر الإشارة إلى أن الصهيونية قرأت وعد بلفور بأنه تسليم فلسطين لليهود. ولذلك ذهب وايزمان إلى الحكومة البريطانية عام 1918 ومازال اللنبى يحارب الاتراك لاحتلال ما تبقى من بلاد الشام، مطالباً بأن تقوم بريطانيا بمسح كامل للأراضي في فلسطين والتثبت من وجود الوثائق القانونية الدامغة لملكية "كل دنم في فلسطين". وحيث أن الغالبية الساحقة من الأراضي مملوكة ومفتلحة بحكم العرف والعادة والتوارث من جيل إلى جيل، كان معنى ذلك أن حكومة الانتداب تستطيع تصنيف معظم الأراضي أنها موات، وبذلك تستحوذ عليها الحكومة وتسلمها لليهود، من أجل أغراض "الاستيطان الكثيف" المنصوص عليه في المادة 6 من صك الانتداب.
وبالفعل، كوّن هربرت صمويل بعد شهر من وصوله إلى فلسطين "هيئة الأراضي" لدراسة الأراضي، رئيسها إنجليزى هو أبرامسون، وعضوها العربي فيضى العلمىو هو من ملاك الأراضي وكان عضواً في مجلس المبعوثان في العهد التركي، وعضوها اليهودي هو حاييم كالفاريسكى، وهو رئيس شركة استيطانية، وهو العقل المفكر للجنة والكاتب الحقيقى لتقريرها (فيضى العلمى لم يكن يعرف الإنجليزية).
صدر تقرير الهيئة في مايو 1921، وجاء فيه أن 60% من فلسطين أرض موات (!) أى ليس لها مالك، رغم أن صمويل أخبر لندن أن الهيئة لم تستطع، بأى درجة من الدقة، تقدير مساحة الأرض الموات. ووقعت الهيئة في أغلاط عديدة منها مساحة فلسطين إذ قدرتها بــ 22,000 كم مربع، وقدرت أن 20% من فلسطين فقط مفتلحة.
كما أوصت الهيئة في تقريرها بتشجيع الملاك على بيع أراضيهم وتخصيص مساحة معينة للفلاح ويباع الباقى، لان "الفلاح نشيط ومزارع جيد" ويستطيع المعيشة من وراء زراعة أرض صغيرة.
وبإصرار وايزمان على مسح شامل لإراضي فلسطين، استقدمت بريطانيا مدير المساحة المصرية الإنجليزي الذى كوّن "دائرة مساحة فلسطين"، يسمح بعمل خرائط طوبوغرافية وفي نفس الوقت يقسم الأراضي إلى أحواض، وهذه إلى قسائم، يحدد مالكها في نفس الوقت. وتصحب فرقة المساحة ضباط دائرة الأراضي للبت في الخلافات على الملكية في الموقع. وبدأ العمل بهذا النظام في عام 1928 بموجب القانون الصادر في ذلك العام.
وقد كان اهتمام دائرة المساحة الأول باثبات ملكية الأراضي اليهودية ومن حولها، لكى تسمح لليهود بالتمدد عند اللزوم. وعندما خرج البريطانيون من فلسطين، لم تكن مساحة فلسطين قد أنجزت أكثر من 20% من مساحتها (5,243,042 دنم) من حيث تثبيت الملكية، أو ما كان يسمى "بتسوية الأراضي".
ومن اللافت أن خُمس فلسطين الذى أنجز يقع كله في المناطق التى يكثر فيها اليهود، على السهل الساحلي، وفي مرج ابن عامر، وغربى نهر الأردن حول طبرية والحولة، وهى المناطق التى خصصها قرار التقسيم عام 1947 للدولة اليهودية، هذا بالإضافة إلى جنوب فلسطين كله وهو عربى بالكامل.
ولم تصل تسوية الأراضي، أى الاعتراف بملكيتها، إلى الجليل الأعلى الاوسط، أو شرق فلسطين (الضفة الغربية) أو جنوبها (قضاء بئر السبع وكل منطقة جنوب القدس). وفي هذا الميدان تلعب إسرائيل بالقوانين المختلقة للاستيلاء على الأراضي.
بعد النكبة مباشرة، في 14/3/1950 أصدرت إسرائيل قانون "أملاك الغائبين". والمقصود بالغائبين هم أهالى 675 مدينة وقرية وضَيْعة طردتهم إسرائيل من ديارهم ومنعتهم من العودة إليها. وجعلت إسرائيل املاكهم تحت الوصاية. ومن خلال الاعيب قانونية مقصودة تحول معظم هذه الأملاك بواسطة قانون آخر إلى هيئة التطوير، التى كان غرضها المعلن أمام العالم هو مجرد الاستفادة من هذه الأملاك المهجورة إلى أن يتم الوصول إلى معاهدة سلام. ولكن الواقع غير ذلك. تمت صفقة صورية بين بن جوريون والصندوق القومي اليهودي على شراء 2,500,000 دنم من أراضي اللاجئين في بئر السبع وعلى حدود الهدنة وحدود لبنان لكى يدعى بن جوريون، عندما جوبه بقرار الأمم المتحدة رقم 194 بعودة اللاجئين إلى ديارهم، أن هذه الأملاك ليست بيده، وأنما هى ملك مؤسسة دولية خيرية.
وحصل نزاع بين دولة إسرائيل والصندوق القومى على من المستفيد والمسئول عن هذه الأراضي. وتم التراضى بينهما عام 1960 على انشاء دائرة إسرائيل للأراضي [وهو الاسم الأصح، وليس دائرة أراضي إسرائيل، كما هو شائع لان إسرائيل لا تملك هذه الأراضي قانونياً] (Israel Land Administration، لكى تدير كل هذه الأراضي في إسرائيل بما فيها الأرض الفلسطينية السليبة وأراضي الصندوق القومي اليهودي التى استحوذ عليها اثناء الانتداب (936,000 دنم) بحيث لا تؤجر ولا تستغل ولا تباع لشخص أو جهة غير يهودية، حتى لو كانت مواطنتها إسرئيلية.
أصبح يد إسرائيل طليقاً في كل الأراضي، سواء كانت مسجلة باسماء أصحابها اللاجئين أو التى لم يتم تسجيلها خلال الانتداب. ومن هذه الأخيرة، فسّرت إسرائيل تصنيف هذه الأخيرة تصنيفاً اعتباطاً بأنها موات، واعتبرتها أملاك دولة. أما أصحابها الذى بقوا على أرضهم وأصبحوا مواطنين إسرائيليين، فقد طردتهم منها إلى مكان آخر وعندما طالبوا بعودتهم إلى أملاكهم اعتبرتهم "غزاة" يعتدون على أملاك الدولة.
وفي نوفمبر 1948 بعد أسبوعين من سقوط بئر السبع في يد الصهاينة جمع الحاكم العسكرى لبئر السبع المشايخ الذين بقوا على أرضهم في إسرائيل، وهم 15% فقط من مجموع 110,000 فلسطينى كانوا يسكنون قضاء بئر السبع ، وأكد لهم أن حكومة إسرائيل ستحافظ على حقوقهم وعاداتهم بشرط أن يعلنوا الولاء للحكومة، ففعلوا ذلك.
ولكن خلال بضعة شهور بدأت إسرائيل بترحيل الأهالي إلى منطقة شمال بئر السبع سميت بالسياج مساحتها حوالى 900,000 دنم، وأخبروهم أن هذا إجراء أمنى مؤقت، وأنهم سيعودون إلى ديارهم خلال فترة بين اسبوعين و6 شهور. وهذا لم يحدث بالطبع.
وفي عام 1953 أصدرت إسرائيل قانون "الاستحواذ على الأراضي" الذى أعطى إسرائيل الحق في تسجيل الأرض التى سبقت مصادرتها إذا توفرت شروط معينة، باسم الدولة. من هذه الشروط الا يكون مالك الأرض حائزاً لها (أى مقيماً عليها) بتاريخ 1952/4/1. وحيث أن المالك قد تم ترحيله عن أرضه إلى السياج قبل هذا التاريخ، فلم يعد له الحق في المطالبة بأرضه، وسجلتها إسرئيل كأملاك دولة.
وبعد انتهاء الحكم العسكرى على العرب في إسرائيل عام 1966 صدر قانونان لإكمال الاستيلاء على أرضي بئر السبع. الأول قانون "حقوق الاستيطان" لعام 1969 الذى يعطى الحق لإسرائيل في تسجيل كل أرض تعتبرها موات باسم الدولة. والثاني قانون "الاستحواذ على أراضي النقب" أو قانون معاهدة السلام مع مصر لعام 1980 الذى يخول الحكومة الاستيلاء على أراضي منطقة معينة لاسباب عسكرية وتسجيلها باسم الدولة دون الحق في استئناف هذا الاجراء.
وبنهاية الحكم العسكرى تقدم عدد كبير من الأهالى بدعاوى لاستلام أراضيهم التى وعدتهم إسرائيل بالعودة إليها "بعد أسابيع". ولم تحسم إسرائيل هذه الدعاوي أبداً، وحاولت بنجاح محدود، الوصول إلى تسوية مع المالكين، خارج المحكمة ودون اعتراف بملكيتهم، بتعويضهم مبلغاً بخساً أو اعطائهم بديلاً لهم بأرض أصغر مساحة وأبعد مسافة عن ديارهم.
لكن الكثيرين أصروا على استرجاع أراضيهم. ومنهم نورى العقبى في العراقيب، الذى بقى على أرضه. ولما دمروا بيته، عاد وبناه، وعادت الشرطة لاعتقاله، ولما خرج من السجن، عاد وبنى بيته، فدمروه أيضاً. وفي منتصف سبتمبر كانت قرية العراقيب قد دمرت 5 مرات.
ولذلك تبقى قضية نورى العقبى رمزاً لأهالى العراقيب، والعراقيب لسائر فلسطين.
قضية نورى العقبى:
حشدت حكومة إسرائيل 6 محامين وخبيرة من الجامعة العبرية، هى البروفسور روث كارك ومعها سجلات الحكومة ووثائق الجامعة العبرية التى سرقتها إسرائيل من مكتبات الفلسطينيين ومؤسساتهم. مقابل ذلك، وقف نورى العقبى مع محامَيْن إثنين من عدالة وخبير من جامعة بئر السبع هو البروفسور أورين يفتخائيل، ومعه جهوده وأبحاثه الخاصة، واستعان بالمختصين في هذا المجال: البروفسور غازي فلاح والبروفسور مايكل فيشباخ وكلاهما في أمريكا، وكاتب هذه السطور.
اعتمدت دعوى نورى أن هذه أرضه وأرض أجداده منذ قديم الأزل، وأن بها مقبرة عشيرته وبير مياههم وآثارهم، وأنه دفع الضرائب لحكومة فلسطين ولديه وصولات منذ 1937/9/22، وانه استمر في دفع الضرائب لحكومة إسرائيل في أكتوبر 1950.
ودعوى إسرائيل على لسان الخبيرة كارك كان أن هذه الديار كلها، مثل معظم فلسطين، كانت قفراً لا يملكها أحد. "لا يوجد فلسطينيون ولا غيرهم هنا. كان هناك رعاة جاءوا بأغنامهم من السعودية، وعادوا إليها". وجاءت الخبيرة بكتب الرحالة مثل موزل وتومبسون وجوران وهل وسيتزن واقتبست منها اسطراً تدل على أنهم لم يروا بشراً ولا فلاحة في تلك الديار. أجاب يفتحائيل بأن هؤلاء الرحالة جاءوا، ليس لدراسة الأهالي وسبل معيشتهم، بل للبحث عن الآثار التى تثبت صحة الكتاب المقدس. ولم يكن لديهم أى اهتمام بالأهالي، وإن كان هناك اهتمام فهو سلبي لانهم يشعرون بالعداء نحو الأهالي المسلمين.
ومع ذلك، فإن اقتباس كارك لهؤلاء الرحالة كان مغرضاً وفيه كثير من التدليس الذى لا يليق باستاذ في الجامعة إذا لم يكن صهيونياً. فهى تقتبس من تومبسون في كتابه "الأرض والكتاب" بشكل مطول، ولكنها تهمل 3 سطور أخيرة تقلب المعنى، إذا يقول تومبسون:إن هذه الأرض زرعت منذ آلاف السنين كما هى اليوم".
وفي عام 1883 وصلت بعثة جيولوجية برئاسة ادوارد هَلْ إلى جنوب فلسطين ومرت بهذه الديار، وجاء في تقريرها إن الزراعة في هذه الديار تشابه جنوب إيطاليا وفرنسا، وتنتج محاصيل تزيد عن حاجة الأهالي، وتصدر من مينائى غزة ويافا. لم تذكر كارك هذه التفاصيل وأهملتها من إقتباسها. لقد وقف يفتخائيل بالمرصاد للخبيرة الصهيونية المتمرسة في التزوير. وذكرها بأنها نفسها كتبت في السبعينات أن مناطق كبيرة في بئر السبع كانت مفتلحة على الدوام. فإجابت بأنها كانت مخطئة، وأنها لما درست الموضوع أكثر وصلت إلى نتيجة مخالفة.
اعتمدت كارك على العالم التشيكى في الدراسات الشرقية البروفسور ألوا موزل الذى كان يعمل لامبراطورية هابسبرج النمساوية من أجل دراسة الوضع في الولايات العربية في الدولة العثمانية تمهيداً لاقتسامها بين الدول الأوربية. وقالت إنه زار زحيلقة (منطقة أخرى من أراضي بنى عقبة) ولم يجد شيئاً. والواقع أن الصفحة التى اقتبست منها تقول إنه قابل بنى عقبة هناك.
كذلك لم تذكر كارك الرحالة الألمانى سيتزن في مطلع القرن التاسع عشر الذى وصل إلى مضارب بنى عقبة في العراقيب وزحيلقة فوجد 70 عائلة تعيش هناك. وهكذا تحولت هذه القضية إلى مقارعة علمية بالحجج والدلائل، وكنا نصور الصفحات من هذه المراجع ونرسلها يوماً بعد يوم إلى يفتخائيل لكى يستفيد منها.
ومن العجائب أن كارك تريد إثباتاً أن فلسطينيين عاشوا في تلك الديار قبل حوالي قرنين، أى قبل قانون الأراضي العثماني لعام 1858، لكى تدحض حجتها بأن أرضهم موات.
وقد ذهبنا أبعد من هذا التاريخ. وقدمنا لخبير نورى نصوصاً من دفتر الضرائب العثمانى لعام 1596 لكل فلسطين الذى سبق ذكره وبينا فيه اسماء مواطن بنى عقبة. لم تطعن خبيرة الحكومة في الدفتر لأنه جزء من رسالة دكتوراه منحتها جامعة Erlangen الألمانية، ولكنها طعنت في اسماء تلك المواطن، وأنها غير موجودة. ومن حسن الحظ أن لدينا خرائط مساحة فلسطين الانتدابية وعليها نفس اسماء المواطن هذه. فقدمناها للمحكمة مبيناً عليها اسماء تلك المواطن.
وقدمت خبيرة الحكومة بالمقابل خرائط بعثة "صندوق اكتشاف فلسطين" (PEF) التى عملت مسحاً كاملاً لفلسطين ابتداء من عام 1871 في 26 خريطة و10 مجلدات. وبينت أنه لا يوجد في هذه الخرائط شىء عن العراقيب وزحيلقة.
وهذا تلفيق آخر. لان هذه البعثة لم تكمل استكشاف قضاء بئر السبع، بل توقفت عند جزء من شماله. وقدمنا خرائط من مساحة فلسطين، استعملت في "أطلس فلسطين" رسمناها بنظام المعلومات الجغرافية (GIS) وقارناها بخرائط (PEF). ومنه اتضح أن خرائط PEF لم تسجل إلا القليل من المعالم، بينما سجلت خرائط مساحة فلسطين أكثر من ضعفها. وقد قام الخبير يفتخائيل بعمل مسح على موقع الأرض نفسها، فوجد المقبرة والبير والمعالم الأخرى التى تطابق خريطة مساحة فلسطين.
ولم تعر خبيرة الحكومة اهتماماً بما قدمناه من الوثائق التى سبق ذكرها، وهى تحديد الأراضي التى قامت به البعثة العسكرية التركية عام 1891، أو معاملات البيع والشراء التى سجلت لها وكالات في محكمة القدس الشرعية في العقد الأول من القرن العشرين. وقالت بكل عنصرية إن الاتراك كانوا مهملين في واجباتهم ولا يعتد بوثائقهم. وأن الصهاينة أكثر دقة وتنظيماً.
وعند الوصول إلى عهد الانتداب، عهد بلفور وبطانته، اعتقدت الخبيرة أنه يمكن الاعتماد كلياً على قانون صمويل الذى وضعه لتوسيع معنى الأرض الموات، وعدم الاعتراف بفلاحة أرض منذ قديم الزمان إلا إذا تم تسجيلها عند حكومة الانتداب خلال شهرين من صدور القانون، والذى لم يحفل به أحد.
ولكننا قدمنا وثيقة تثبت أن تشرتشل أكد لوفد من مشايخ بئر السبع أن حكومة الانتداب البريطانية تعترف بحقوقهم وعاداتهم في نفس فترة صدور هذا القانون. (شكل رقم 1).
لقد كانت هذه الوثيقة مفاجأة للمحكمة التى كانت تأخذ الرواية الصهيونية كوثيقة معتمدة، ولخبيرة الحكومة، استاذة الجامعة العبرية. وقد دعت هذه المفأجاة إلى نشر خبر هذه القضية في بعض الصحف الإسرائيلية بعنوان "تشرتشل في محكمة بئر السبع".
وبعد أن استفاقت الخبيرة من روعها، قالت أن حكومة الانتداب لم تطبق هذا التعهد البريطاني، واعتمدت على قانون صمويل، وهو القانون الذى جرّم كل من أحيا أرضاً ميتة أو لم يسجل أرضاً كان قد أحياها منذ زمن.
ولكننا قدمنا أوراقاً لخبير نورى تبين أن المحكمة العليا في القدس في قضية الأراضي (استئناف) رقم 89 لعام 1929 قد فصلت في قضية رفعت أمامها بأنه يجب الاعتداد بالقرار الذى أصدره تشرتشل عام 1921 وهو بذلك قانون سارٍ تم تطبيقه.
وقدمنا وثيقة بريطانية تبين بن جوريون طلب استغلال أراضى شاسعة في قضاء بئر السبع، لانه "لا يملكها أحد"، فردت عليه حكومة الانتداب، بأن "هذه الأراضي مملوكة ومفتلحة منذ قديم الزمان".
وقدمنا مقاطع من تقارير حاكم اللواء الجنوبي (قضاء غزة بئر السبع) التى يرسلها إلى المندوب السامى كل أسبوعين منذ عام 1920 حتى 1948، يشرح فيها كل تقرير كما يلزم: سقوط الأمطار (المحل والخصاب)، بداية المزارعين لحراثة أراضيهم، جودة المحصول من عدمه، مقدار الضرائب التى تم جمعها، المعونات التى تقدمها الحكومة من العلف والقمح ( في سنوات المحل)، والجرارات الزراعية لحرث الأرض، والاستشارات الزراعية لتحسين المحاصيل ومكافحة الآفات مثل الدودة . بل وتقارير عن القضايا التى تفصل فيها المحكمة حول النزاعات على ملكية الأراضي. وهناك تقرير يذكر بوجه خاص تحايل اليهود على حرث أرض لا يملكونها في عسلوج، قضاء بئر السبع، حسب قانون انتقال الأراضي لعام 1940، وعندما طُلبوا للحضور، قدموا تعهداً بعدم التعدى على هذه الأرض. خوفاً من توقيع العقاب عليهم، وربما لعلمهم أنهم سيأخذون كل هذه الأراضي مجاناً في حرب يستعدون لها أمام أهالي عزل من السلاح .
وبالطبع لا يمكن لعاقل أن يتصور أن تقارير حاكم اللواء المشار إليها، التابع لحكومة بريطانيا المتواطئة مع الصهيونية، تشير إلى أرض "قفر، لا صاحب لها، ولا يؤمها بين حين وآخر إلا رعاة جاءوا من السعودية وعادوا إليها"، كما تقول الخبيرة الصهيونية روث كارك.
والأمر من الوضوح، بحيث يكون من الغريب، لولا دعاوي الصهيونية، أن نلجأ إلى إثباته، كإثبات أن الشمس تشرق من الشرق. ولذلك أرسلنا لخبير نورى خريطة قانون "انتقال الأراضي لعام 1940" (شكل رقم 2) الذى يحدد الأراضي العربية الصرفة التى يمنع على اليهود التملك فيها واليهودية التى يسمح لليهود التملك فيها، والأراضي بين بين، بإذن من المندوب السامي مباشرة.
فالمنطقة A ومساحتها 16,680 كيلو متر مربع، أرض عربية صرفة لا يسمح لليهود بالتملك فيها، وهى تغطى مساحة قضاء بئر السبع ومناطق أخرى.
ورغم أن إسرائيل استولت على كل هذه الأراضي بعد الغزو الصهيوني عام 1948 وسجلتها "أراضي دولة"، إلا أن بريطانيا لم تسجل بئر السبع كأراضي دولة على الاطلاق. ولو كانت أراضي قفر كما تدعى إسرائيل لسجلتها بريطانيا أراضي دولة.
ولذلك قدمنا لخبير نورى خريطة انتدابية (شكل رقم 3) تبين أراضي الدولة (State Domain)، وليس فيها في كل الجنوب أراضي دولة إلا الكثبان الرملية على شاطئ خان يونس ورفح وإمتياز الفوسفات في الزاوية الشمالية الشرقية من البحر الميت.
وبين المفهوم الاستشراقي الصهيوني والواقع الفلسطينى السارى منذ قديم الزمان، تقع مفارقات هزلية مضحكة، لولا أن عواقبها في غاية الجدية.
قدمت خبيرة الصهيونية صورة من سجل المحكمة العليا في القدس رقم 59 لعام 1944 بتاريخ 1944/5/20 يشهد فيها شيخ من عشيرة الصانع (من قبيلة التياها، أى نفس قبيلة نورى العقبى) بأنهم "عرب رحل" (Nomad)، وذلك في قضية رفعها فايز درويش الوحيدي من عرب الوحيدات (ترابين) ينفى أنهم (عرب رحل) لانهم يلبسون البدلات والطرابيش ويعيشون في المدينة. وقفزت خبيرة الصهيونية على هذه الشهادة لتثبت أن واحدا من أهل المدعين يشهد أمام محكمة الانتداب بأنهم "عرب رحل"، وبالتالى ليس لهم وجود في تلك البلاد.
وعندما رجعنا إلى تفحص هذه الأوراق التى أرسلها إلينا خبير نورى لاستجلاء الأمر، تبينت الحقيقة، وهى واحدة من الحقائق الكثيرة التى تحاول إسرائيل طمسها بالخداع والتزييف والكذب.
في اواخر عهد الحكومة التركية، لجأت الحكومة إلى تهدئة الاوضاع بين القبائل من حروب "وطوشات"و "كونات" حول الأرض والماشية، عن طريق المصالحات معهم وتقديم الهدايا والخلع، وذلك تخوفاً من التهديد البريطاني لأراضيها الذى تحقق بغزو اللنبى لفلسطين، يساعده "لورنس العرب" في شرق الأردن. وعندما استقر الأمر لبريطانيا في كلا البلدين، استمرت على هذا الحال ووضعت قواعد "تحديد نشاط القبائل"، ويسرى مفعوله من معان إلى بئر السبع إلى العريش في سيناء وكلها خاضعة للحماية البريطانية. وطبقت هذه القواعد في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، وبموجبه كانت تعقد محاكم العشائر للصلح بينها في شرق الأردن وسيناء وفلسطين. وصدر قانون بذلك عام 1942. ومن سوء حظ الخبيرة الصهيونية أن هذا القانون كان يسمى بالانجليزية
Bedouin Control Law, 1942 (Nomad)
فاعتقدت أن بإمكانها الاستعانة به لإثبات دعواها الخرافية، اعتماداً على كلمة (Nomad).
وواقع الأمر أن شخصاً من وحيدات الترابين قتل شخصاً من عشيرة أخرى، ولجأ القاتل إلى بيت أبو معيلق عند النساء. فأصدر قضاة المشايخ حكماً بأن تجلو عائلة الوحيدات عن المنطقة إتقاء لحدوث جريمة أخرى اثناء ما يسمى "بفورة الدم"، كما هى العادة، إلى حين عقد صلح أو جزاء بين الطرفين. وصّدق حاكم اللواء على هذا القرار بجلاء العائلة. وهنا رفضت عائلة القاتل هذا القرار وقدمت طعناً في الحكم أمام محكمة القدس. وكانت المسألة المعروضة هى: هل يخضع الوحيدات للقانون البدوي، الذى يأمرهم بالجلاء، أم أنهم ليس بدواً (يلبسون الطرابيش). فحكمت محكمة القدس، بأنهم ليسوا بدواً بناء على شهادة الشيخ الصانع، الذى شهد بكل براءة أنهم فعلاً يلبسون الطرابيش.
والموضوع كله لا يتعلق بملكية الأرض ولا فلاحتها، ولا معيشة الأهالي على أراضي بئر السبع، ولكنه يتعلق بعرف شعبى في حالة ما يسمى "بقضايا الدموم" التى توجب على القاتل الجلاء عن المنطقة لحين الصلح. ووقعت الخبيرة الصهيونية فريسة جهلها الاستشراقي بمعنى كلمة (Nomad) وما هو المقصود بها في واقع الأمر.
أرسلنا لخبير نورى هذه المعلومات، ونسخ من رسائل حاكم اللواء التى يشرح فيها هذا الموضوع كما جاء أعلاه، واتصلنا بحفيد صاحب الدعوي أمام محكمة القدس في قطاع غزة، وأكد القصة بكاملها. لكن خبير نورى لم يجد المناسبة لتقديم هذه المعلومات للأسف. وكان هذا كافياً لفضح جهل الخبيرة الصهيونية أو تزييفها للواقع.
لكن خبير نورى، بأبحاثه الدقيقة ودأبه الدائم، لاثبات أن لنورى العقبى حقاً في أرضه كمواطن إسرائيلي، له مثل حقوق اليهود الإسرائيليين، وجد خريطة لتواجد مضارب القرى الفلسطينية في قضاء بئر السبع. (شكل رقم 4) وهى من الغزارة بحيث لا يمكن عقلا قبول القول بأن هذه الأرض قفر لا صاحب لها.
ويلاحظ في هذه الخريطة أن كثافة سكان قضاء بئر السبع تتبع نسبة هطول الأمطار، فهى تبلغ أقصاها في الركن الشمالي والغربي من القضاء وتخف بعد ذلك. وهذا منطقى ويطابق الواقع المعروف.
وفي نهاية فترة الانتداب، قدمت حكومة الانتداب تقريراً نهائياً عن فلسطين للجنة الانجلو أميركية عن فلسطين عام 1947. وجاء في التقرير أنه لم يثبت أن قضاء بئر السبع بالضرورة أرض موات كمايلى:
"من الصعب القول بأنه لم تعط منح أو أذونات، وعليه فإنه ليس من المقبول اعتبار الأراضى الخالية جنوب بئر السبع أو شرق الخليل أنها أراضي موات". (ص 77).
"ومن الممكن القول بأن هناك دعاوي بملكية 2,000 كم مربع التى تفلح من وقت إلى آخر. وباقى الأراضى يمكن اعتباره موات أو ميرى خالي". (ص82).
أحجية الأرض الموات
جاء اعتماد حكومة إسرائيل الكلى في اغتصاب أراضي بئر السبع على أنها أرض "موات" وبذلك تصبح "أرض الدولة". لم تذكر إسرائيل أن هذه الأراضي اغتصبت بالقوة المسلحة عام 1948، ولم تذكر أنها طردت معظم أهاليها بالقوة وأصبحوا لاجئين، وأنها طردت من بقى بعد ذلك بثلاث سنين إلى منطقة أخرى وهم مواطنوها، بوعد العودة بعد عدة أسابيع. ولم تذكر أن معظم أراضي العراقيب وكل الأراضي شرقها، بل وبلدة بئر السبع نفسها هى خارج حدود التقسيم، وبذلك تقع في الدولة العربية، وهى جزء من ربع فلسطين الذى احتلته إسرائيل زيادة عما أوصى به تقرير التقسيم.
وقد دحض باحثون إسرائيليين، منهم شامير وكيدار ، مقولة أن أرض بئر السبع موات، وفندا تعريف كلمة "موات" حسب المادة 103 من قانون الأراضي العثماني، التى وسعتها محاكم إسرائيل لكى تنطبق على أكبر مساحة ممكنة وتسقط معظم الدعاوى في أنها أرض مفتلحة لها صاحب. جاء في تعريف المحاكم الإسرائيلية هذه الشروط التعجيزية الآتية:
- لا يجوز استعمال مدى سماع "الصوت الجهير" لتحديد مسافة الأرض الموات. يجب استبداله بمقياس علمي حديث.
- المسافة من العمران إلى الأرض الموات يجب أن يكون أكثر من 2.5 كيلو متر.
- قياس المسافة من قرية أو مدينة (فقط).
- لا يجوز قياس المسافة من أرض ميرى مفتلحة.
- لا يجوز القياس من مساكن غير ثابتة مثل بيوت الشعر أو الخيام حتى لو سكنها أهلها وفلحوا أرضهم.
- لا يجوز القياس من مبانى أو معالم متباعدة مثل بيوت ريفية، أو مبانى حول محطة سكة حديد أو مركز شرطة أو منزل حجرى منعزل، حتى لو كانت هذه الأماكن مأهولة.
- لاثبات أن الأرض ملك العشيرة، يجب على العشيرة اثبات أنها كانت تفلحها قبل عام 1858، تاريخ صدور قانون الأراضي العثماني.
- لاثبات أن الأرض ليست موات، يجب إثبات أن المساحة المفتلحة فيها أكثر من 50% من مساحتها.
- شهادات دفع الضرائب عن الأرض لا تثبت ملكية الأرض.
- عقد شراء اليهود لبعض الأراضي من العرب قبل 1948، واعترافهم آنذاك بأن المالك العربي هو صاحب الأرض، لا تعنى أنه مالك الأرض التى باع جزءا منها. (وهذا ينطبق بشكل آخر على قبيلة العزازمة التى باعت للحكومة التركية أرضاً لبناء مدينة بئر السبع عليها. وأيضاً على بلدية بئر السبع التى وهبت أرضاً بمساحة 8.5 دونمات لبريطانيا لانشاء مقبرة جنودها في الحرب العالمية الأولي).
- يمكن القبول بدليل الصور الجوية التى أخذها سلاح الجو البريطاني عام 1945 بالشروط الآتية:
- أن الأرض المفتلحة تغطى أكثر من 50% من الأرض المطالب بها.
- أن المدعى بملكية الأرض فلحها لمدة 20 عاماً متواصلة. وحيث أن الصور أخذها سلاح الجو عام 1945، فمعنى ذلك أنه يجب إثبات فلاحة الأرض حتى عام 1965 على الأقل. ولكن حيث أن الأهالي قد طردوا من ديارهم عام 1952، فعليه لا يمكن لاحد منهم إثبات أنه فلح أرضه حسب الصور الجوية.
- الشرط الأساسى أن عبء الاثبات يقع على صاحب الأرض نفسه، وليس على الدولة. وحيث أن الدولة تملك كل المستندات الحالية والتى سرقتها من حكومة الانتداب ومن المؤسسات الفلسطينية والأهالي عام 1948، وانه ليس بيد مالك الأرض غير بعض الأوراق والتاريخ الطويل الممتد في الذاكرة، فإن عبء الاثبات عليه معناه عدم قدرته على إقناع محاكم إسرائيل.
ومن المدهش حقاً أنه، لولا جريمة التنظيف العرقى عام 1948 أي طرد أهالى البلاد، حتى لو أصبحت تلك الأراضي تحت حكم إسرائيل، فإن كل جدل إسرائيل بأن أراضي بئر السبع هى أرض موات، لا قيمة له على الاطلاق، وذلك بناء على الدليل البسيط الآتى:
كان عدد سكان بئر السبع قبل النكبة حوالى 100,000 نسمة موزعون على 77 عشيرة في 88 موقع لأراضيهم. وعلى ذلك فإن متوسط عدد سكان كل عشيرة/قرية 1,250 شخص. وكل التقديرات الجدية تبين أنهم افتلحوا مساحة 3,750,000 دنم، ولم تقل عن 2,500,000 دنم في سنوات المحل. وفي الحالة الأولي تكون مساحة أرض العشيرة حوالى 43 كيلو متر مربع بنصف قطر قدره 3.6 كيلو متر. وفي الحالة الثانية تكون مساحة أرض العشيرة 28 كيلو متر مربع بنصف قطر أقل من 3.0 كيلو متر، وهو قريب من الحد الأقصي الذى قررته المادة 103 لتحديد بعد الأرض الموات عن العمران. وحيث أن قرى العشائر كانت في الجزء الشمالي الغربي من القضاء، غزير الأمطار، وبطرح الوديان والتلال من هذه المساحة، فإن مسافات العمران بين العشيرة والأخرى أقرب من ذلك.
لكن القضية الأهم أنه لو لم يطرد الأهالي من ديارهم لكان عدد سكان القضاء (في منتصف 2008) 750,000 نسمة، وبالتالى أصبحت المسافة بين العشيرة/القرية والأخرى 3 كيلو متر (بنصف قطر 1.5 كيلو متر فقط). أى أن قرى وعشائر بئر السبع ستكون عبارة عن قرى متلاصقة ابتداء من العمران المعترف به في قرى غزة إلى جنوب وشرق وغرب مدينة بئر السبع. وبالتالى لا يمكن لأراضيهم أن تكون (موات).
وهذا بالطبع هو الهدف وراء تهجير الفلسطينيين من ديارهم والقول أن أراضيهم قفر لا صاحب لها.
وتجدر الملاحظة أن اعتبار الأرض موات ليس في قضاء بئر السبع فقط فهو قضية كبرى. فإسرائيل تعتبر مناطق كثيرة في الجليل بين القرى من الأحراش والوعر والمناطق الجبلية أرض موات تصنفها أراضي دولة. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الضفة الغربية حيث تزرع المستوطنات، وتصرح إسرائيل بأنها لم تأخذ أملاك أحد. (وحتى حسب التعريف الإسرائيلي، أثبتت منظمة بتسيلم أخيراً أن 40% من الأراضي المقامة عليها المستوطنات هى أراض مملوكة لأفراد).
دور القانون
هناك ميدانان للقانون: (1) القانون المحلى الإسرائيلي و(2) القانون الدولي. بالنسبة للقانون الإسرائيلي هناك فرصة ضئيلة في استرجاع الحقوق، حسب القانون العرفى (قانون ميرفي رقم3) الذى ينص على الآتى: "بموجب قانون اللصوص لا يمكن استرجاع المسروقات".
ورغم جهود خبير نورى الكبيرة، فإن لديه أمل قليل في أن تحكم المحكمة الصهيونية بعودة الأرض إلى صاحبها. ومع ذلك فإن جمعية "عدالة" في الداخل تقوم بدور رائع في تقديم المطالبات والدعاوي إلى محكمة إسرائيل العليا بتقديم تفسير مختلف للقانون الإسرائيلي. وهذا معناه الاعتراف بهذه القوانين ولكن بتفسيرها لصالح صاحب الأرض.
أما القوانين الدولية، فهى لاشك تحرّم الاستيلاء على الأراضي بهذه الطريقة. وقد أشار دافيد كريتسمر أن قرارات الأمم المتحدة، خصوصاً قرار A/RES/52/62 الصادر في 1997/12/10 يعنى "أن الصهيونية نجحت في بسط سيادتها على 78% من مساحة فلسطين ولكنها لم تحصل على حجة ملكية هذه الأراضي".
وقرار الأمم المتحدة هذا، الذى تكرر صدوره، ينص على الآتى:
"- يُطلب من الأمين العام أن يأخذ جميع الخطوات الضرورية، بالمشاورة مع لجنة التوفيق لفلسطين، للحفاظ على الأملاك العربية والأصول وحقوق الملكية [في إسرائيل] وأن يحفظ ويحدّث السجلات الموجودة لدى اللجنة. – يدعو جميع الاطراف ذات العلاقة أن تقدم للأمين العام المعلومات المتوافرة لديهم عن الأملاك العربية والأصول وحقوق الملكية في إسرائيل التى تلزم لتنفيذ هذا القرار".
هذا القرار لم تتم الاستفادة منه. كما لم تتم الاستفادة من القرار الاستشارى لمحكمة العدل الدولية الصادرة في يوليه عام 2004 حول جدار الفصل العنصرى، والذى يحتوى على مواد هامة تدعم القضية الفلسطينية منذ وعد بلفور.
ويبقى العمل الشعبى مفتوحاً، وله اليوم دور كبير بفضل الاتصالات السريعة (مثل الانترنت) والفضائيات، التى تؤدى إلى نقل المعلومات آنياً بالصوت والصورة. وهذا ما حدث في عملية تدمير قرية العراقيب وسرقة أرضها. ولذلك:
- يجب تدبير الدعم المادى (أولاً) والمعنوى لأهلنا في بئر السبع لكى يستطيعوا الصمود على الأرض، وإعادة بناء مساكنهم وتوفير سبل المعيشة لهم، وتقوية قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، وحشد قوى الفلسطينيين في الداخل معهم.
- يجب تفعيل جمعيات حقوق الانسان والمدافعة عن العدالة، والمشاركة في جهودها في كل انحاء العالم. وهذا بالطبع يشمل الجمعيات الفلسطينية والعربية والإسلامية.
- يجب المشاركة في حملة المقاطعة وسحب الاستثمار والعقوبات على إسرائيل (BDS) التى تتنامى في العالم الغربي.
- يجب المشاركة في جميع محافل الأمم المتحدة، سواء كانت الجمعية العامة، أو لجانها المختلفة للمطالبة بالحقوق العربية في فلسطين، بشكل واقعى مباشر.
- يستحسن إرسال وفود من أهالي بئر السبع، رجالا ونساء وأطفالاً، إلى الخارج، لشرح قضيتهم بشكل شخصى، وهذا سيكون له أبلغ الأثر عند الغرب.
- بالمقابل، يمكن استقبال وفود من شخصيات ذات مستوى عالٍ في بئر السبع ليروا رأى العين ماذا يعانيه أهلنا هناك. وليس هذا صعباً، فيمكن إضافة هذه الزيارة على جدول أعمال زوار رام الله، وهم كثر، والمتضامنين مع الفلسطينيين حول جدار الفصل العنصرى.
وهكذا فإن الحق واضح، والعمل قليل. ولن يعود الحق إلا باستعمال الأسلحة التى تجلب العدالة.
جدول الاشكال:
1. شكل رقم 1: قرار تشرتشل وزير المستعمرات عام 1921 بالاعتراف بحقوق أهالي بئر السبع حسب العرف والعادة. المصدر: هيئة أرض فلسطين، لندن
2. شكل رقم 2: خريطة قانون انتقال الأراضي لعام 1940، التى تحرم على اليهود ملكية الأراضي في منطقة A (وتشمل قضاء بئر السبع).
المصدر: أطلس فلسطين (1917 – 1966)، هيئة أرض فلسطين، لندن.
3. شكل رقم 3: خريطة أملاك دولة (State Domain) عامة لعام 1947. المصدر: أطلس فلسطين (1917
– 1966)، هيئة أرض فلسطين، لندن.
4. شكل رقم 4: مناطق مضارب القبائل العربية في قضاء بئر السبع. المصدر: مساحة فلسطين (مقياس 1:250,000) لعام 1947. N. Levin et al, Journal of Historical Geography, XXX(2009) 1-21.