شكر المجلس الأعلى للثقافة – وزارة الثقافة – القاهرة
كان مقرراً إلقاء هذا الخطاب بعد استلام الدعوة. ولكن تأجل إلقاء المحاضرة إلى موعد لم يحدد
يسعدنى أن أتحدث إليكم اليوم عن حقبة هامة من تاريخنا وجغرافيتنا، وهى الترابط الوثيق بين جناحي المشرق العربي على مدى العصور. ولقد اكتسب هذا الترابط أهمية خاصة في القرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين، عندما عاد الاستعمار الاوربي إلى المنطقة بعد غياب اوربا عن المشرق منذ الحروب الصليبية لسبعمائة عام خلت.
وقد أشبع المؤرخون هذه الحقبة بالدراسات والابحاث، ولست مؤرخاً، ولا نيتى أن أكون كذلك. لكننى أتحدث اليكم اليوم كمواطن عربى ابن هذه المنطقة، استوعب هذا التاريخ واستنطقه بالعبر والدروس، وأرى كيف يمكن أن نستفيد منه في مستقبلنا القريب.
وإن كان هذا في معظم الاحوال درساً ضرورياً، فهو اليوم أكثر أهمية عندما نرى نواقص التربية الوطنية العربية بين الشباب، وبين تلك الفئة الصغيرة من الإعلاميين الذين لهم صوت يُسمع وليس لهم علم يُتبع ولا حكمة يقتدى بها.
على مدى عصور كانت مصر والشام جسما واحدا. وكان الهجوم على مصر يأتي من الشام، والهجوم على الشام يأتي من مصر. وإن جاء العدو من البحر فإنه يندفع نحو الشام تارة ونحو مصر تارة أخرى.
-
-
وليس في هذا أي غرابة، فقد امتد هذا التاريخ إلى عصور ماقبل الإسلام. أما بعد بزوغ فجر الإسلام، قبل 1400 سنة، اجتمعت كل هذه الأمة تحت دولة واحدة (2) التى كانت قلب العالم القديم، وشواطئها أهم بحور العالم في ذلك الوقت. وكان فيه رحالة مثل ابن بطوطة سافر من شواطئ المحيط الاطلسي إلى بحر الصين العظيم، مواطناً في بلد واحد، يعمل فيه إماماً وقاضياً، ويتزوج ويتاجر، وهو في نفس الديار. ثم تحولت عاصمة هذه الدولة إلى الاستانة وأصبحت الدولة خلافة عثمانية، (3) سيطرت بشكل مباشر على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وخليج البصرة كما كان يعرف أنذاك، أو الخليج العربي اليوم. ولم يمتد نفوذها إلى داخل الصحارى العربية التى بقيت تحت حكم زعمائها المحليين.
استمرت الدولة العثمانية في حكم هذه المنطقة لمدة 400 عام، انتهت في الحرب العالمية الأولى. وفي القرن الذي سبق هذه الحرب وفي القرن الذي لحقها، وقعت أحداث عظام غيّرت وجه المنطقة إلى واقع مؤلم، حتى يومنا هذا.
كان السفر بين مصر والشام شاقا ومجهدا، وخطرا في كثير من الأحيان. ولكن كانت هناك ثلاث فئات من الناس خاطرت بالسفر بين مصر والشام وأكدت على ترابطهما وتواصلهما.
الفئة الأولى: فئة العسكر، استقر بعضهم في أماكن تنقلاته وغزواته. والفئة الثانية: الأئمة والفقهاء والقضاة، تنقلوا في بلاد الإسلام واستقروا في بعضها. والفئة الثالثة: أهل التجارة والمال، سافروا بتجارتهم إلى بلد وباعوا بضائعهم ثم استقروا فيها. ومن هذه الفئة الأخيرة المحاسبون ومحصلو الضرائب وأصحاب المال، هؤلاء كان لهم تواصل مستمر بين مصر والشام. نذكر منهم إسمين إبراهيم الصباغ وميخائيل الجمل. هذان الإسمان غريبان عليكم ولكن كان لهما دور في تاريخ مصر والشام.
كلاهما كان ممن يسمون "نصارى الشام"، الذين كانوا ينافسون الاقباط على الوظائف المالية عند الولاة والحكام. كان إبراهيم الصباغ وزيراً للشيخ ظاهر العمر الزيداني في فلسطين وخازناً لامواله وطبيبه، أما ميخائيل الجمل فكان رئيس الدواوين والجمارك لدى علي بك الكبير في مصر.
أما ظاهر العمر فقد أقام أول دولة فلسطينية مستقلة عن السلطان في الآستانة، وبسط نفوذه على شمال فلسطين في الجليل بين طبرية وعكا وامتد حتى غزة في جنوب فلسطين. أما علي بيك الكبير في مصر فكان له طموح الاستقلال بمصر أيضاً. وفيما يمكن أن يسمى بأول اتفاقية دفاع مشترك، توثقت العلاقة بين ظاهر العمر وعلي بيك الكبير. وأرسل ظاهر العمر إبنه ليحارب إلى جانب علي بيك في مصر، وآواه في غزة عندما لجأ إليها عام 1766. وعندما اشتد الضغط على ظاهر العمر. أرسل علي بيك الكبير قائد جيشه محمد أبو الذهب إلى فلسطين ليقف إلى جانب ظاهر العمر وانتهت القصة بأن أجهضت تلك المحاولتان لإنشاء كيانين مستقلين في فلسطين ومصر عن السلطان العثماني. لكن المحاولات لاتحاد البلدين عادت بعد نصف قرن على يد محمد علي.
بدأ اهتمام أوروبا في الشرق ينشط بعد غيبة استمرت سبعمائة عام بعد الحروب الصليبية كما قلت. وكان غرض عودة أوروبا إلى الشرق هو تقسيم تركة ما سمى في أوربا "بالرجل المريض" لما بدا من ضعف الدولة العثمانية وأنها في طريقها إلى الزوال.
وصل الكاونت فولني Volney إلى مصر عام 1782 وطاف في أرجائها ثم سافر إلى الشام. وأصدر خريطتين باسم "بر مصر" و"بر الشام". وسجل في رحلته دقائق الحياة في هاذين البلدين بمعلومات وافية عن الناس وأعمالهم وتجارتهم وصادراتهم وقوتهم وضعفهم وعلاقتهم ببعضهم. كان هذا تقريرا إستراتيجيا وافيا يصلح مقدمة لغزو البلاد. إذا فلا عجب أن فرض نابليون على ضباطه قراءة هذا الكتاب كمقرر قبل غزو مصر.
كانت طموحات نابوليون أن يصنع له إمبراطورية في الشرق، تسيطر عليه، وتقطع خطوط مواصلات بريطانيا إلى الهند. في عام 1798، احتل نابليون مصر. وفي معركة مشهورة قرب إمبابة، (4) هزم المماليك الذين كانوا يدافعون عن مصر. كانت شجاعة المماليك يضرب بها المثل، لكنها لم تصمد أمام التخطيط الفرنسي الحديث، حيث يتقدم الجنود في مربعات في قلعة متحركة يتكسر عليها هجوم المماليك. وبينما كانت المعركة حامية الوطيس، هرع علماء الأزهر ومعهم عامة الناس بالنبابيت والعصي إلى بولاق على الشاطئ المقابل لنهر النيل يدعون لهم بالإنتصار، كما قال الجبرتي ويبتهلون إلى الله بالنصر. وكانت الهزيمة ماحقة فانفرط عقد المماليك وتفرقوا ايدى سبأ.
-
-
أما نابليون فقد خلد ذكراه بالوقوف أمام أبو الهول (5) وقوله لجنوده قبل المعركة، "ايها الجنود، إن خمسة آلاف سنة من الحضارة تطل عليكم من قمة الاهرامات". هذا من باب الدعاية القديمة لانه لا يمكن رؤية الاهرام من موقع المعركة.
كان الغزو الفرنسي لمصر طامة كبرى. فهو أول غزو اوربى بعد الحروب الصليبية. واندفع المسلمون للجهاد ضد الفرنسيس كما كانوا يعرفون. ولعل القليل يعلم أنه عندما تقدم الفرنسيون نحو الصعيد هبت قبائل الحجاز واليمن لنصرة مصر. وكما تبين لنا هذه المخطوطة اليمنية (6) تطوع الناس لمواجهة "الكفرة اللئام من الهجوم على ساحات مصر. وكانت النساء يلقين بعقودهن وملبوسهن نصرة للمجاهدين". عبر المجاهدون البحر إلى الصعيد، ولا تزال قبورهم في اسوان تشهد بأسماء قبائلهم العربية إلى يومنا هذا. وفي هذا المقام لا يمكننا أن ننسى سليمان الحلبى الشامي طالب الازهر الذى قتل الجنرال كليبر في صيف عام 1800.
كانت القبائل العربية، بجانب المماليك، المصدر الثاني للقوة العسكرية في مصر، وكانت بينهم منافسة، إذ كان العرب يقولون للمماليك "نحن أصحاب البلاد وما أنتم إلا عبيد أرقاء اشتريتم بالذهب". وفي احوال أخرى كان بينهم تحالف لحكم البلاد.
لذلك اهتمت البعثة العلمية الفرنسية التي جاءت مع نابليون لدراسة اوضاع مصر والشام بتسجيل أسماء القبائل العربية بين القاهرة ودمشق وأماكن تواجدها وعدد فرسانها لتقدير حجم العدو المحتمل. (7)
انطلق نابليون من مصر لغزو فلسطين. وعندما عبر صحراء سيناء ووصل إلى مشارف غزة في فبراير 1799، ورأى الخضرة قال "هذا يذكرني بأوروبا". ولم يستطع نابوليون كسر شوكة عكا وارتد عن أسوارها خائبا، لكنه في طريق العودة اقترف جريمة شنيعة إذ أعدم 5 آلاف أسير في يافا.
تولى محمد علي ولاية مصر (8) وكان كما هو معلوم طموحاً جدا للسطرة على المشرق ولتكوين دولة قوية تحت حكمه، فغزا الحجاز للقضاء على الحركة الوهابية، ثم أرسل حملة بقيادة ابنه إبراهيم باشا لغزو الشام. كان غرض هذه الحملة هو إقامة دولة في مصر والشام "إلى حيث يتحدث الناس العربية" كما قال، وأحيا بذلك طموحات ظاهر العمر وعلي بيك الكبير. كان مشروعا طموحا قابله الناس في فلسطين بالترحاب لأنهم رأوا فيه حكما مستنيرا ينقذهم من بطش العثمانيين. لكنهم سرعان ما اكتشفوا ان ابراهيم باشا يعاملهم بقسوة تعوّد عليها، وهم أهل الجبل ولا يقبلون بظلم جديد، فثاروا عليه عام 1834 في القدس ونابلس والخليل. ولم يجد بدا أمام هذا العدو الجديد إلا الاستنجاد بأبيه.
أدرك محمد علي الحاجة إلى إرسال قبائل عربية من مصر لتواجه هذه الثورة المختلفة بنفس أسلوبها. فأرسل فرسانا من قبائل أولاد علي والهنادي والهوارة لمجابهة الثورة.
كانت بريطانيا تراقب هذا الطموح عن قرب. ونجد في هذه الوثيقة (9) دليلا على ذلك. أرسل القنصل الإنجليزي كامبل الذى صادق محمد علي وتقرب إليه، أرسل إلى وزير خارجية بريطانيا بالمرستون هذا التقرير في 23 يونيو 1834 صادر من الاسكندرية يقول فيه "إن محمد علي واثق من نصره في الشام لأنه أرسل قوات عربية لمساعدة ابنه إبراهيم باشا". كتب القنصل الانجليزى أنه ذهب لمقابلة محمد علي لاستطلاع موقفه في الشام فأخبره محمد علي أنه استدعى شيوخ اولاد علي وأقنعهم لكى يرسلوا فرسانهم إلى الشام. ويقول ايضاً أنه لديه 4000 من رجال القبائل قد وصلوا دمشق بالفعل.
ظلت بريطانيا تراقب تحركات محمد علي وامتداد طموحاته إلى أن وصل إبراهيم باشا إلى كوتاهيا في جنوب الأناضول، عندها استنجد السلطان العثماني بأوروبا لإيقاف تقدم محمد علي. وكانت بريطانيا في مقدمة الذين تصدوا لفتوحات محمد علي.
وفي عام 1840، عُقدت معاهدة لندن التي أوقفت فيها فتوحاته. وبذلك انتهت حملة إبراهيم باشا بخسارة ومربح. أما الخسارة فهي أنه فقد ما فتحه في الشام والجزيرة العربية وفقد ثلثي جيشه في الشام. ذهب ومعه 130 الف جندى وعاد منهم خمسون ألفاً فقط والباقى ما بين قتيل أو هارب أو متبق في بلاد الشام. ولذلك ليس من المستغرب أن نجد في فلسطين مدنا وضيعاً كثيرة باسم كفر مصر والمصاروة وأبو كبير وسكنة درويش. كما ذكر الرحالة الأوروبيون أن ملامح الناس في جنوب فلسطين وملابس النساء تشبه فلاحي مصر. ونجد حتى يومنا هذا عائلات شامية أصلها مصرى بنفس الأسماء ونفس القربى بين مصر وفلسطين مثل عائلات البليبسى والقمحاوى وأبو خضرة وأبو لبن وأبو الجبين وأهالى سكنات أبو كبير وحماد ودرويش. أما المربح فقد اعترف السلطان العثماني بولاية محمد علي على مصر له ولنسله من بعده. واصدر السلطان العثماني عام 1841 فرماناً بتولي محمد علي ونسله حكم مصر. وأرفق بالفرمان خريطة تحدد ولايته على مصر. (10)
هذه الخريطة هامة جدا، ولها شأن كبير في الاحداث التى تلت ذلك لأكثر من مائة عام، ولهذا ظهرت الخريطة أو اختفت حسب الظروف السياسية. تبيّن الخريطة حدود مصر الشرقية في سيناء بخط يمتد من رفح إلى السويس؛ أي أنه يضم إلى البلاد المصرية ثلث سيناء الشمالي الغربي فقط. طلب محمد علي من السلطان السماح للعساكر المصرية حماية درب الحج المصري في الثلثين الباقيين وبعدها، في محطات نِخْل والعقبة، والمويلح والوجه على ساحل البحر الأحمر، فأعطي له ذلك.
-
-
انفتحت شهية أوروبا نحو الشرق مرة أخرى، ووصل إليه سيل من الرحالة والقساوسة والمغامرين وضباط المخابرات. كانت الحجة أو الدافع هو الإطلاع على سحر الشرق وأسواقه مثل أسواق القاهرة التي تأتي إليها أقمشة الشام وبخور الهند عن طريق جدة والعبيد عن طريق الأربعين من السودان، وتأتى إليها قوافل الحجاج من المغرب وغرب إفريقيا في الطريق إلى مكة. (11) كما أن سحر الشرق جذب هواة التصوير الضوئي الحديث المولد لأن آثار مصر والأرض المقدسة في فلسطين كانت مغرية لهم في ضوء الشمس الساطعة وحاجة التصوير الوليد إلى شخوص ثابتة لا تتحرك.
لكن لم يكن حب السفر والترحال هو الحافز الوحيد لهذه الرحلات. لقد أصبحت الجاسوسية عملاً منظماً لفريق من الباحثين.
في غمرة الاحداث التى أدت إلى شق قناة السويس وافتتاحها وصلت بعثة بريطانية عام 1869 عام افتتاح القناة إلى سيناء وغرضها المعلن هو استكشاف طريق خروج اليهود من مصر في صحراء التيه حسب الرواية التوراتية. أنجزت البعثة خرائط متعددة لسيناء، وأخذت 500 صورة ضوئية. لم تكن زيارة البعثة إلى سيناء مصادفة، فلقد كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بقناة السويس، والتي أنجزت في عام 1865، ولم يكن لبريطانيا فيها نصيب. هذا الوجه في هذه الدائرة سيكون له شأن كبير. (12-2)
-
-
أنتم طبعا تعرفون لورانس العرب أو ملك العرب غير المتوج كما تسميه الدعاية الإنجليزية. (13-2). لقد كان لورانس النسخة الثانية المعدلة. أما النسخة الأولى فهى صاحبنا هذا الذي كان في الدائرة الحمراء، اسمه إدوارد هنري بالمر. بالمر هذا كان أستاذا للغة العربية في جامعة كامبرج. وبالطبع كان يتقن العربية، لكن بعد عودته من بعثته في سيناء إلى بريطانيا، اسُتدعي مرة أخرى لمهمة أخرى.
في عام 1881، طالب أحمد عرابي بإنصاف الضباط المصريين من التمييز العنصري ضدهم لصالح الضباط الشراكسة والأتراك. وعُرفت حركته تلك عند العامة باسم "هوجة عرابي". وتطور الأمر باستدعاء الخديوي توفيق الأسطول البريطاني لمساعدته. وبينما كان الأسطول البريطاني يقترب من شواطئ الإسكندرية، وصل بالمر هذا إلى ميناء يافا بترتيب مسبق، ثم اتجه إلى غزة ومنها إلى سيناء، وقابل شيوخ القبائل محملا بأكياس من الذهب الإنجليزي. كانت بريطانيا تريد مدخلا لمصر والإستبلاء على قناة السويس. فلم تجد أفضل من دعوة الخديوي توفيق لها. وعندما دمر اسطولها الاسكندرية اتجهت القوات البريطانية مباشرة إلى قناة السويس، التى لم تكن جزءا من شكوى الخديوى ضد الضباط المصريين. وتقدمت إلى مواجهة عرابي غربي القناة في أبي كبير.
كانت مهمة بالمر هذا هو الحصول على تعاون مشايخ سيناء وعدم انضمامهم إلى هوجة عرابي، وعلى الأخص، عدم تخريبهم لقناة السويس. حاول بالمر هذا استمالة شيوخ القبائل على الضفة الشرقية للقناة، ولكنهم قالوا له إنه لا يمكننا مقاتلة المسلمين والوقوف في صف الكفار. ظل بالمر مستمرا في محاولاته. ومدّته سفينة حربية في السويس بأكياس من الذهب وبضابطين بريطانيين. ولكن أفرادا من القبائل اعترضوهم وقتلوا بالمر وزملاءه. وأخذوا الذهب. وانتهت بذلك جهود بالمر بالفشل.
أما الجيش البريطاني غرب القناة، فقد هزم قوات عرابي في هجوم مباغت في ظلام الليل. وبقيت القوات البريطانية التي جاءت لمهمة مؤقتة، هي مؤازرة الخديوي توفيق، 74 عاما، من عام 1882 إلى 1956 عندما طردها عبد الناصر. وهذا درس لمن يصدقون ان الاحتلال مؤقت. (فقرة عن هجرة الشوام إلى مصر: تقلا وجورجي زيدان والعكس: عبدالله النديم ومحمد عبده)
-
-
-
أرسلت بريطانيا بعثة أخرى أكبر وأشمل لإستقصاء أحوال فلسطين وبدأت عملها عام 1871، أرسلها "صندوق اكتشاف فلسطين" الذي أنشئ تحت رعاية الملكة فكتوريا قبل ذلك بسبع سنوات. وكان غرضها المعلن هو تقفي آثار السيد المسيح واستطلاع الأرض المقدسة لبيان صحة الإنجيل الجغرافية والتاريخية. كان ضابط المساحة الثاني في الحملة شاب حديث التخرج من مدرسة وولتش Woolwich للمساحة العسكرية واسمه هوريشيو كيتشينر. (14).
خلال 4 سنوات من المسح الميداني في فلسطين و4 سنوات من الدراسة والتمحيص في لندن أنجزت البعثة عملا يضاهي "وصف مصر" الذي قامت به الحملة الفرنسية. وأنجزت 26 خريطة لفلسطين بها معالم ألف قرية و12 ألف إسم مكان كما صحبها عشر مجلدات عن آثار فلسطين والقدس بالذات، وعن طيور فلسطين، ونباتاتها، وأهلها. لكن الغرض المخفي من هذه البعثة هو التخطيط للإستيلاء على فلسطين، وهو ما تم بعد عقود قليلة من الزمان. أما كيتشينر هذا فقد استمر في إنجاز خرائط مساحية لجنوب فلسطين وأجزاء من سيناء. وشارك في الحملة البريطانية لاخماد ثورة المهدي في السودان. وأصبح سردارا للجيش المصري. ثم أصبح وزيرا للحربية البريطانية ومات غرقا عام 1916.
كان غرض بريطانيا من احتلال مصر هو حماية خطوط مواصلات بريطانيا نحو الهند وبالذات السيطرة على قناة السويس كما قلت، ونزعها من السيادة التركية. لكن سيادة حكومة مصر الرسمية لم تكن كاملة على ثلثي سيناء الجنوبي، رغم أن حماية العساكر المصرية لدرب الحج المصري كانت لا تزال سارية. (15) وبإنشاء محطة الطور في سيناء، وبالسفر إلى مكة بحراً قل الإهتمام بدرب الحج المصري، وتخلت مصر عن قلعة الوجه بتاريخ 1887، والمويلح بتاريخ 1891، والعقبة بتاريخ 1892.
ولذلك نشأت الحاجة البريطانية إلى سيطرة أقوى على ثلثي سيناء الجنوبي. فأرسلت المخابرات العسكرية البريطانية في القاهرة برئاسة الاميرالاى أوين ضابطاً لها اسمه جننجز براملي (W.E. Jennings Bramly) الذي اتخذ من نِخِل مقرا له، وطاف بأرجاء سيناء يسجل أحوالها ومواضع القوات التركية فيها. والمطلع على تقاريره (16) يدهش لغزارة المعلومات التي كان يجمعها حول أسماء القبائل وعددهم وشيوخهم وميولهم السياسية وبناء بيوتهم وحتي ماشيتهم والوسم الموسوم به ماشيتهم للتعرف عليها. استمرت تقاريره من حوالي 1890 حتى 1906 عند تحديد الخط الإداري بين مصر وفلسطين. وأصبح براملي المرجع الأول البريطاني عن سيناء.
تحول النزاع المحدود بين براملي والقائد التركي في العقبة إلى أزمة دبلوماسية وعسكرية. فقد اعتبر الأتراك تحركات براملي تهديداً عسكرياً، لاسيما بالنسبة لخطوط مواصلاتهم، بما في ذلك خط سكة الحديد الجديد الذي كان يجري إنشاؤه بين دمشق والمدينة المنورة. وقام الحاكم التركي لغزة بزيارة المقضبة والقصيّمة جنوب العريش غرب الخط الوهمي بين رفح والعقبة، وذلك لإثبات وجود الحكم التركي. كما قام الأتراك، الذين كانوا مدركين للمخططات البريطانية في جنوب فلسطين، ببناء مدينة بئر السبع الحديثة فوق أنقاض المدينة القديمة وبنفس الاسم لتكون مركزاً لقواتهم ومواد تموينهم. وسعى الأتراك أيضاً لتقوية بلدة عوجة الحفير (على خط الحدود الفلسطينية-المصرية كما تم تعيينه لاحقاً) ومدينة العقبة. وهكذا، استنتج البريطانيون أن من الواجب تحديد الخط الفاصل بين الدولتين بشكل حاسم.
ولدى مناقشة النزاع الحدودي، ادَّعى اللورد كرومر أن الفرمان الصادر عام 1841، الذي يعيِّن الحدود الإدارية بين فلسطين ومصر، لم يُعثر عليه. رفض الاتراك تعيين حد بين ولايتين عثمانيتين، واحدة منها تحت السيطرة البريطانية. وأرسلت بريطانيا بوارج إلى شواطئ رفح والعقبة. رافق مجيء البوارج رسالة مفادها أن بريطانيا ستحتل هاتين المنطقتين إذا لم يوافق السلطان على خط حدود مستقيم يمتد بينهما. وافق السلطان وأصُدر إرادة سلطانية بتاريخ 12 سبتمبر 1906، قبل ساعات قليلة من الوقت الذي كان من المفروض أن ينزل فيه الجنود البريطانيين إلى البر. وهكذا، اضطر الضباط الأتراك للجلوس مع الضباط البريطانيين ومساعديهم المصريين في خيمة شمال العقبة لرسم خط الحدود.
بدأ ترسيم الحدود من موقع أم رشرش (التي صار اسمها لاحقاً إيلات) شرق طابة على خليج العقبة إلى رفح على البحر المتوسط في خط شبه مستقيم، ولو استمر الخط مستقيماً فإنه سيقطع أراضي العشائر (17) واسباب معيشتهم لوقوعها على جانبى الخط. ولذلك اعترض الاتراك عليه. وكانت معظم أراضي قبائل الترابين والتياها والعزازمة تقع في فلسطين ولكنها تمتد إلى سيناء. وتخضع هذه القبائل للحكم التركي وتدفع الضرائب إلى قائمقام بئر السبع، الذى يرسل دورياته إلى تلك المناطق حتى العريش لجمع الضرائب وإقرار الأمن. كما أن حل الخلافات بين العشائر كان يتم في بئر السبع.
-
-
-
وبعد مجادلات مطوّلة امتد الخط الإداري على شكل خط مستقيم مع انحراف بسيط. وهكذا ضمت اراضي القبائل هذه إلى مصر، وهى تحتوى على آبار عديدة ومناطق زراعية. ولذلك قام بعض أفراد العشائر بمهاجمة لجنة الحدود اثناء عملها. وتم الوصول إلى تسوية بتعديل شروط إتفاقية الحدود بحيث يسمح للعشائر بعبور الخط إلى أراضيهم وآبارهم على جانبيه.
جرى توقيع الاتفاق النهائي الذي يعيّن ‘الخط الإداري’ (أي أنه ليس خط حدود دولي) بين "ولاية الحجاز ومتصرفية القدس من جهة وبين شبه جزيرة طور سيناء"، من قِبَل ممثلين عن مصر وعن تركيا في الأول من شهر أكتوبر، 1906. (18) (لاحظ أن ولاية الحجاز كانت طرفاً في الاتفاق، وهذا ما دعى الملك عبد العزيز بعد ذلك بعقود إلى المطالبة بجنوب فلسطين وجنوب الأردن حتى معان).
لم يطرأ أي تغيير جوهري على الخط الإداري بعد احتلال البريطانيين لفلسطين عام 1917 وتأسيس حكومة الانتداب (1920-1948). ورغم وجود مخافر للشرطة المصرية في رفح والعريش، على طول خط السكة الحديد الذي يربط بين مصر وفلسطين، فإن جوازات السفر للقادمين إلى مصر كانت تختم في القنطرة فقط الواقعة على قناة السويس باعتبار أن أصحابها دخلوا قلب الأراضي المصرية.
وفي كل هذه التحركات الإستعمارية نجد أن مشاريع الصهيونية لم تكن غائبة عن كل ذلك. إذ أوعز هيرسل إلى أصدقائه الإنكليز في لندن أن يسمحوا بإقامة مستعمرة يهودية في شمال سيناء. وفي عام 1902 حضرت بعثة نقبت خلالها عن مصادر المياه في شمال سيناء. ووصلت إلى نتائج غير مشجعة. لكن المعارض الحقيقي لهذا المشروع كان هو اللورد كرومر لأنه رأى في هؤلاء اليهود الأوروبيين مدخلا استعماريا لمنافسة بريطانيا في سيناء. ولذلك كتب إلى لندن بتاريخ 29 نوفمبر 1902 (19) يقول فيها إن الإمكانية الوحيدة لهؤلاء المستعمرين هو أن يتخلوا عن جنسياتهم الأوروبية ويصبحوا رعايا عثمانيين خاضعين للقانون المصري وبالطبع فشلت الفكرة كلها.
وعادت محاولات الصهاينة ففي ابريل 1906 جاءت بعثة من اليهود الروس إلى العريش ومعهم رعايا عثمانيين يهود ممن يتكلمون العربية، يبحثون عن أرض بين العريش والعوجة لإسكان 50 عائلة روسية. ويقول تقرير من مديرية العريش أنهم طردوا من المنطقة رغم حصولهم على تزكية من القنصل الإنجليزي في القدس.
وفيما كانت الدولة العثمانية تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة قام السلطان عبد الحميد بإنشاء مشروع له أهمية إستراتيجية كبيرة. (20) فأعلن عن تبرعات من المسلمين في أنحاء العالم لإنشاء سكة الحديد الحجاز من دمشق إلى المدينة لإعفاء الحجاج من مشقة السفر ولتأكيد التواصل بين الشام والحجاز، حيث أن بريطانيا كانت تسيطر على مصر. وقد كان السلطان أول المتبرعين وأكبرهم. وتم افتتاح هذا الخط عام 1905 بأيد عاملة تركية وعربية، وبهندسة ألمانية.
-
-
-
لم تتوقف المحاولات الصهيونية عن انتهاز الفرص لإيجاد موضع قدم لها في المنطقة. فعرض المستعمر اليهودي النمساوي Pilling، متحدثا باسم يهود العالم طالبا من السلطان عبد الحميد تمليك المنطقة العربية حول خط سكة حديد الحجاز وإسكان 5 ملايين من اليهود الذين سيعمرون هذه البلاد، وسيضعون حداً للتدخل والتحريض الأجنبي مقابل ثلاثة ملايين ونصف ليرة ذهب. ويتم ترك هذا المبلغ للحكومة السنية بعد جلب اليهود والسماح لهم بمحل المعبد القديم في القدس الشريف بموجب سندات رسمية. كان محامي المشروعات الصهيونية في بريطانيا هو لويد جورج وكان نائبهم البرلماني في مانشستر هو آرثر جيمس بلفور. ولهؤلاء شأن آخر فيما بعد.
وثيقة عثمانية تكشف محاولة اليهود العالمية في وقت مبكر للسيطرة على المنطقة العربية بالمال، وعدم الاكتفاء بفلسطين، تشير هذه الوثيقة بأن اليهودي النمساوي بيلنغ جاء متحدثا باسم يهود العالم طالبا من السلطان عبد الحميد تمليك المنطقة العربية بالإضافة إلى فلسطين بثلاثة ملايين ونصف المليون ليرة ذهب، في وقت كانت الدولة العثمانية تعاني من الديون المتراكمة بالإضافة إلى الامتيازات الأجنبية(21).
وبعد ذلك بنحو عشر سنوات أى عام 1914 عادت المخابرات البريطانية إلى العمل مرة أخرى لعمل خرائط مساحية لجنوب فلسطين وما تبقى من شرق سيناء ووادى عربة. لقد قام بهذا العمل الجبار هذا الرجل واسمه إستيوارت نيوكم (22-2) S. Newcombe. لقد أنجز قبيل الحرب العالمية الأولى خريطة مساحية تمتد من غزة إلى العقبة بفريق مساحي مستمد من المساحة المصرية الخاضعة للإدارة البريطانية. وهذه المساحة هي الوحيدة التي تمت إلى يومنا هذا مشيا على الأقدام. كانت المساحة ذخيرة ثمينة لقوات اللنبى فيما بعد. إذ بينت الخريطة الطرق التي يمكن أن تمشي عليها الدواب أو العجلات والمسالك الصحراوية وآبار المياه وغزارتها وملوحتها.
هذا الرجل كان له تأثير كبير في تخطيط حدود فلسطين الشمالية. إذ أنه مع زميله الفرنسي بوليه (Paulet) رسما خط حدود فلسطين الشمالية مع سوريا ولبنان بعد نزاع بين الفرنسيين الذين يريدون توسيع دولة لبنان المسيحية والإنكليز الذين يريدون تلبية طلب الصهيونية بإدخال منابع نهر الأردن في فلسطين. ولذلك ترون في خريطة فلسطين إصبع الجليل تابعاً لفلسطين والمنطقة المجاورة تابعة لجنوب لبنان.
كان يحكم سيناء دائماً ضابط إنجليزي، والمشهور فيهم باركر. (23) وكان الإنجليز لا يتهيبون من معيشة الصحراء. فتأتي زوجاتهم معهم يسافرن بالجمال ويزرعن الحدائق بالزهور ويبنين ملاعب كرة تنس. (24) ويقول أحد مدراء سيناء الانجليز أنه عندما يطلب ضابطا مصريا مساعدا له وكان معظمهم من أولاد الذوات يعزفون عن قبول هذه الوظيفة.
-
-
-
لقد أخذ باركر هذه الصورة (25) لاول علامة حدودية قرب طابا. وقد أنقذت هذه الصورة الدعوى المصرية ضد إسرائيل في تحكيم قضية طابا عام 1988.
أما باركر وأمثاله فقد أنشأوا شرطة عسكرية من الهجانة وهذا هو زيها (26-2) وهو كما ترون نفس الزي الذي يلبسه شرطة بئر السبع أيام الإنتداب البريطاني.
بل أكثر من ذلك، فإن بريطانيا كانت تحكم سيناء وجنوب فلسطين وشرقي الأردن بموجب قانون العشائر الموحد الذي فرض لفض النزاع بين العشائر ومنع الغارات المتبادلة والصلح في جرائم القتل والثأر. وكانت تعقد محاكم العشائر من بداية القرن العشرين حتى الحرب العالمية الثانية في العريش في سيناء، وبئر السبع في فلسطين، ومعان في شرق الأردن، بالتبادل وتحت إشراف ضباط بريطانيين.
لكن التواصل التاريخي بين فلسطين ومصر قد انفصمت عراه عام 1915 إذ أعلنت بريطانيا مصر محمية بريطانية وبقي المشرق العربي ولايات عثمانية. وأصبحت قناة السويس حاجزاً مائياً وقانونياً يفصل مصر عن المشرق. وبدأ عصر جديد من الإستعمار المباشر لهذه المنطقة.
نقلت بريطانيا مركز إدارة الشئون العربية في خليج البصرة، من الهند إلى القاهرة، وافتتحت المكتب العربي في القاهرة ليكون مقرها الجديد وانضم إليه ضابط إنجليزي شاب يعرف العربية اسمه لورانس.
-
-
-
وبدأت من القاهرة المراسلات بين المندوب السامي مكمهون والشريف حسين شريف مكة حول اعتراف بريطانيا باستقلال الولايات العربية وقيام مملكة عربية وعلى عرشها أبناء الشريف حسين، مقابل القيام بثورة ضد الاتراك وطردهم من البلاد. وبينما كانت طائرات الحلفاء تسقط المناشير على الثوار العرب، تحثهم على الثورة ضد الدولة العثمانية، وتؤكد لهم وفاء بريطانيا بتعهدها باستقلال الولايات العربية، كان اثنان من الدبلوماسيين يجلسان على طاولة في غرفة مقفلة، وامامهما خريطة الشرق الاوسط. هذان الدبلوماسيان هما البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، يتفقان على تقسيم المشرق العربي بينهما. وبموجب هذا الاتفاق الخائن تكون فلسطين وشرق الأردن والعراق من حصة بريطانيا، وما تبقى من سوريا ومن ضمنها ما أصبح لبنان من حصة فرنسا. (27).
بقيت هذه الخيانة مكتومة إلى أن كشفها الثوار البولشيفيك عندما أطاحوا بالقيصر في أكتوبر 1917. وفي هذا الشهر من نفس العام، وقعت أحداث أخرى غيرّت مجرى التاريخ في فلسطين، وبدأ عصر من القتل والتشريد إلى يومنا هذا.
قررت بريطانيا احتلال فلسطين وخرجت حملة عسكرية بريطانية من مصر لهذا الغرض باسم غريب حقا وهو "الحملة العسكرية المصرية". دخلت الحملة فلسطين في مطلع عام 1917. وانهزمت مرتين أمام غزة التى كان يدافع عنها الاتراك مع مستشاريهم الألمان. بعدها اقالت بريطانيا الجنرال موري Murray المهزوم وعينت مكانه اللنبى Allenby (28) الذى أعاد تنظيم الجيش وغيّر الخطة العسكرية بالإلتفاف المفاجئ نحو بئر السبع. وسقطت بئر السبع في مساء يوم الاربعاء 31 اكتوبر 1917، وانزلت القوات البريطانية العلم التركي من فوق المسجد ورفعت مكانه علم بريطانيا. ما أن وصل خبر هذا الانتصار إلى لندن حتى أعلن بلفور وعده المشئوم في 2 نوفمبر الذى سبق الاتفاق عليه سراً مع اثرياء اليهود. وبذلك انتهى عهد من الحكم العربي والإسلامي استمر 1400 عام. ولا نزال إلى يومنا هذا نعانى من هذه الكارثة الكبرى.
-
-
-
كان قوام الحملة البريطانية 150 الف جندى من الإنجليز والاستراليين والنيوزلانديين والهنود. وهم الذين نسب إليهم انتصار بريطانيا. لكن كان هناك جيش آخر لم يعزى له نصر ولم يحظ بتقدير معنوي أو مادي. كان هذا الجيش يتكون من 125 ألف عامل مصري، بموجب عقود عمل في الظاهر، وكعمال سخرة في واقع الأمر، جمعوا قسرا من القرى والنجوع. (29)
تقدم الجيش البريطاني في زحفه نحو فلسطين بسرعة إنشاء خط سكة حديد وأنابيب مياه النيل التى بناها العمال المصريون إلى أن وصلت غزة. (30) وحمّلت الآف الجمال المصرية المواد والتموين والذخائر إلى مواقع القتال في سيناء وفلسطين. وسقط منهم العشرات من التعب والارهاق وقلة العناية.
هنا ملاحظة تاريخية يجب ذكرها. عندما سقطت بئر السبع خرج قائد الحامية التركى عصمت بيك مسرعاً على حصانه، وأرسل إشارة إلى زميله الضابط مصطفى بيك في نابلس. واتفق الطرفان على أن هزيمتهم العسكرية ليست نابعة من قلة قدراتهم العسكرية، وإنما نابعة من فساد الحكم في عاصمة بلادهم. وعادا لتغيير الحكم في بلادهم.
مصطفي بيك أصبح معروفاً باسم أتاتورك وهو أول رئيس لجمهورية تركيا. أما عصمت بك فهو عصمت اينونو الرئيس الثانى للجمهورية. وسيتكرر هذا المشهد بعد ثلاثين عاماً على بعد ثلاثين كيلو متراً من نفس المكان.
وفي 9 ديسمبر 1917 دخل اللنبى القدس ماشيا على قدميه احتراما لقدسية المكان. (31). وبعده بثلاث سنوات وصل الصهيونى هربرت صامويل المندوب السامي إلى فلسطين لتأسيس دولة إسرائيل.
وفي مؤتمر السلام في فرساي عام 1919 بدأ الحلفاء يوزعون الغنائم بينهم. وكان ينتظر على باب القاعة قائدان عربيان يطلبان من المستعمرين الأوربيين النظر بعين العطف إلى مطالبهم الوطنية والإلتزام بالوعود التى قطعتها بريطانيا.
-
-
-
أول هؤلاء كان الأمير فيصل ابن الشريف حسين (2-32) وهنا في الصورة ومعه بعض الضباط العرب ومعه أيضا لورانس العرب صاحب الدور المزدوج كصديق للعرب وخادم للإمبراطورية البريطانية.
وفي نفس الوقت كان هناك سعد زغلول مع وفده، يؤكد طلب الشعب المصرى "بالإستقلال التام أو الموت الزؤام". لم تكن بين الرجلين أى تنسيق ولا تعاون. بل إنه قد نقل عن سعد زغلول أنه قال: "إن قضيتنا مصرية وليست قضية عربية". خرج الرجلان بخفي حنين، بل أكثر. فقد نفي سعد زغلول إلى سيشل وطرد الفرنسيون الأمير فيصل من دمشق، وتفرغت بريطانيا لاستيعاب مستعمراتها الجديدة.
وعندما بدأ النقاش حول تقسيم الغنائم أصر اللورد كرزون (33) وزير الخارجية البريطانية في مرافعته أمام اللجنة الشرقية على ضرورة حيازة بريطانيا لفلسطين وقال في مذكراته" لقد اثبتت الحرب أن فلسطين هى الدرع الإستراتيجى لمصر وان وجود أى قوة أجنبية في فلسطين سيؤثر سلبا على وضع بريطانيا لحماية قناة السويس والمناطق العربية المجاورة". عندما أقرا هذا القول يخطر لي أن أقول لهؤلاء الذين يجهلون عمق العلاقة بين مصر وفلسطين، أو معنى الأمن القومي العربي، أقول لهم "إذا لم تكونوا عرباً فلتكونوا إنجليز". لكن هذه الحقيقة الاستراتيجية لم تغب عن ابن مصر عبقرى المكان جمال حمدان: إذ كتب قائلاً: "منذ 4000 عام الأقل أدركت مصر أن الشام هو خط دفاعها الطبيعى الأول وأن مصيرهما مرتبط عضوياً، تاريخياً وجغرافياً".
عندما وصل المندوب السامي البريطاني والصهيوني العريق هربرت صامويل إلى فلسطين وواجهته مظاهرات ضد وعد بلفور، أبلغ تشرتشل بذلك. لهذا الغرض وايضا لتنظيم استيعاب البلاد العربية، من فلسطين إلى العراق، التى اصبحت تحت قبضة بريطانيا، دعى تشيرتشل وزير المستعمرات البريطانية إلى اجتماع موسع عام 1921 في مقر القيادة العسكرية البريطانية للشرق الأوسط في القاهرة، (34) وحضر هذا المؤتمر كبار القادة العسكريين وهربرت صامويل ولورنس وبعض الضباط العرب مثل نورى السعيد. وكان غرض المؤتمر حل التناقضات في السياسة البريطانية حول وعد مكماهون واتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. واتفقوا على الوفاء بوعد بلفور والتخلى عن سوريا ولبنان لفرنسا وتأجيل مصير شرق الأردن. ومن الغريب حقاً أن مطالب مصر بالاستقلال لم تبحث في مؤتمر بهذه الأهمية، عقد في القاهرة نفسها.
سافر تشرتشل مع ربيبه صامويل بقطار خاص إلى القدس. وفي غزة استقبله الأهالى في محطة القطار بالصيحات والتكبير الذى كان يعتقد أنه احتفاء به فحيا الجماهير تحية ملكية. ولكن الاستقبال كان في الواقع صيحات تنديد ببريطانيا ووعد بلفور. وفي القدس قابل تشرتشل شخصيات فلسطينية بارزة واعطاهم وعودا بريطانية كاذبة ولم يتنازل عن وعد بلفور.
وفي الثلاثين عاماً من الحكم البريطاني رأس الحركة الوطنية الفلسطينية الحاج أمين الحسيني (35). وبسبب ظروف فلسطين وانشغال العرب كل بقضيته، أخذت هذه الحركة منحى فلسطينيا خاصا. وفي عام 1929 وقعت ثورة البراق حين اعتدى الصهاينة على حائط البراق في المسجد الأقصي. وكونت بريطانيا لجنة دولية من دول أخرى للتحقيق في أصل النزاع. وقررت اللجنة أن حائط البراق هو مِلْك إسلامي خالص. دعا الحاج أمين عام 1931 إلى مؤتمر أسلامي عربي لإنقاذ المسجد الأقصى، فكانت الإستجابة لدعوته أسلامية أكثر منها عربية وجاء كثير من علماء المسلمين مثل العلامة محمد رشيد رضا والامام كاشف الغطاء والطباطبائي من ايران، والثعالبي من تونس والشاعر إقبال من الهند. ومن الشخصيات العربية شكرى القوتلى من سوريا، ورياض الصلح من لبنان ومحمد علي علوبة من مصر. وألقى عبد الرحمن عزام كلمة حزب الوفد نيابة عن مصطفي النحاس الذى تبنى الاتجاه العربي نحو القضية الفلسطينية.
-
-
-
-
أما من ناحية شعبية فقد وقفت هدى شعراوى التى اصبحت رئيسة جمعية السيدات العربيات مع اخواتها في فلسطين.
وقام الإخوان المسلمون بمظاهرات ووزعوا المنشورات مطالبين بإنقاذ فلسطين والأقصى من الاستعمار الصهيوني والبريطاني، كما قام حزب مصر الفتاة بتأييد المطالب الوطنية في فلسطين وكلاهما كانت له تنظيمات شبه عسكرية.
ولكن لم تلق الحركة الفلسطينية ولا لرئيسها الحاج أمين الحسيني دعما قويا من كافة الساسة المصريين. إسماعيل صدقي باشا مثلاً (36) المعروف بقربه من الإنجليز لم يكن يرى في القضية العربية شأنا له، وكان اهتمامه أولا واخيراً بالقضية المصرية. كتب السفير الإنجليزى في القاهرة إلى لندن يقول إن إسماعيل صدقي (37) مستعد للدعوة إلى تقسيم فلسطين واعطاء دولة لليهود مقابل أن تتساهل بريطانيا في شروط معاهدة 36 والجلاء عن مصر.
كان صدقي باشا معاديا للتوجهات العربية وقام بقمع المظاهرات في مصر ضد وعد بلفور، واستعد لحضور افتتاح الجامعة العبرية في القدس، ومثله في ذلك مثل لطفى السيد الملقب "باستاذ الجيل" والمنادي "بالقومية المصرية" لا عربية ولا إسلامية. كان لطفى من القلائل العرب الذين حضروا افتتاح الجامعة العبرية في القدس عام 1925. لم يكن صدقى باشا وحده في هذا التوجه. تقول مصادر الوكالة اليهودية أنه تمت اتفاقيات سرية مع جهات عربية على تقسيم فلسطين وانشاء دولة إسرائيل. وهذه الجهات هى إسماعيل صدقي في مصر والامير عبدالله في شرق الأردن والكنيسة المارونية في لبنان ونورى السعيد في العراق.
هنا عودة سريعة إلى جننغز براملي ضابط المخابرات البريطانية ومفتش سيناء. كان براملي نظراً لخبرته الطويلة في سيناء ولنفوذه (38) مصراً على استيلاء بريطانيا على ثلثي سيناء الجنوبي، وكتب عام 1947 إلى الخارجية عارضاً اقتراحه معتبراً أنه عند احتلال فلسطين وتوقيع معاهدة لوزان مع تركيا، تنازلت تركيا عن ولاياتها العربية للدولة المحتلة وهى بريطانيا. ولذلك يكون من حق بريطانيا السيطرة على سيناء. أى أن سيناء تحولت من السيادة التركية إلى السيادة البريطانية بحكم الحرب.
وفي عام 1945 أنشئت جامعة الدول العربية بإيعاز من بريطانيا، وعادت القضية الفلسطينية إلى حضن العرب، وتعين موسى العلمي لشغل مقعد فلسطين، وأصبحت الجامعة العربية بحكم الوصى على فلسطين لانها لم تصبح دولة بعد.
بدأت الجامعة بإصدار قرارات بمقاطعة البضائع والشركات اليهودية في فلسطين. ولكن ترددت بعض الدول في تطبيقها لان لها مصالح مع اليهود.
وفي 29 نوفمبر 1947 صدر قرار التقسيم بأغلبية ضئيلة ومعارضة العالم العربي والإسلامي والاسيوى والافريقى على قلة عددهم في ذلك الوقت.
قرار التقسيم هذا كان مجرد توصية لا تنفذ إلا اذا وافق عليه الطرفان. وبالطبع لم يوافق الفلسطينيون على انشاء دولة يهودية في 55% من فلسطين، بينما لم يتمكن المهاجرون اليهود في ظل بريطانيا من السيطرة على أكثر من 6% فقط من فلسطين. وفي مارس 1948 تخلت هيئة الأمم المتحدة ومعها الولايات المتحدة عن قرار التقسيم لانه سيؤدى إلى الحروب وسفك الدماء، واوصت بدلاً عنه وضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة. وهنا هاج بن غوريون الصهيونى وماج بعد نزع الخيط القانوني الذى كان يعتمد عليه، وقرر احتلال فلسطين بقوة عسكرية مجهزة منذ سنين قوامها 120 الف جندى.
واحتلت القوات الصهيونية 220 قرية فلسطينية وطردت أهلها واقترفت اكثر من 15 مجزرة منها دير ياسين، وبذلك تم تهجير نصف اللاجئين الفلسطينيين. هذا كله في وجود بريطانيا وقبل اعلان قيام إسرائيل وقبل دخول اى جندى عربي نظامي لإنقاذ فلسطين.
أشعلت اخبار التهجير والمذابح الشعب العربي في العواصم العربية، واصبح لزاما على الحكومات التدخل لإنقاذ الفلسطينيين من المذابح. في مصر تردد محمود النقراشي في إرسال قوات إلى فلسطين بحجة وجود القوات البريطانية في قناة السويس. لكن الملك فاروق أصر على دخول الجيش لرغبته في ان لا يتخلف كملك عربي عن القيام بالواجب، وربما نكاية بالآمير عبدالله في شرق الأردن الذى كان ينوى اقتسام فلسطين مع اليهود.
كان جنوب فلسطين المخصص للجيش المصري (39 – مراحل) خاليا تقريباً من اليهود الذين كانوا يتجمعون في الساحل من يافا إلى حيفا.
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
هذه الخريطة تبين حوالى 20 إلى 30 مستعمرة في الجنوب. يبدو عددها كثيرا ولكن كل واحدة فيها 30 جندى أى ما مجموعه بين 600 إلى 1000 جندى. وبالمقارنة هذه خريطة القرى الفلسطينية (----) التى يبلغ تعداد سكانها ربع مليون نسمة وتسيطر على كافة المنطقة.
عندما قررت مصر (----) دخول الجيش في 1948/5/15 لم تكن العصابات الصهيونية تسيطر إلا على هذه المناطق الملونة على الساحل، حول يافا. دخل الجيش المصري على محورين (----) طريق السهل الساحلي وطريق العوجة بئر السبع - القدس، وما بينهما طريق المجدل إلى الفلوجة.
لم تتمكن القوات المصرية من التقدم كثيراً خارج المناطق العربية، بل وخسرت بعض الأراضي العربية المبينة بالأخضر (----) حتى الهدنة الأولى بتاريخ 1948/6/11، في المرحلة التالية استولى اليهود (---) على اللد والرملة وممر القدس. وفي منتصف اكتوبر انطلقوا نحو الجنوب واحتلوا هذه المنطقة البرتقالية (---) وسقطت مدن المجدل واسدود وبئر السبع في قبضة اليهود، وبقيت الفالوجة محاصرة بقيادة السيد طه ومساعده جمال عبد الناصر.
تقدمت القوات اليهودية واحتلت مناطق أخرى في الجنوب واتجهت إلى العريش (---) واوقفها التهديد البريطاني، وعادت لمحاصرة رفح من الغرب. أقالت الحكومة اللواء المواوي قائد القوات المصرية وعينت بدلاً منه اللواء أحمد فؤاد صادق، وطلبت منه حكومة ابراهيم عبد الهادى ترك فلسطين والعودة إلى مصر بما تبقى من قواته. رفض أحمد فؤاد صادق هذا الأمر وبعث في رسالة تاريخية إلى القاهرة يقول فيها "إن شرفى العسكرى لا يسمح لي بالتخلي عن 200 ألف شخص من النساء والاطفال والمسنين يذبحوهم اليهود زى الفراخ". وبصمود أحمد فؤاد صادق انهزم اليهود في معركة حاسمة قتل فيها قائد الهجوم اليهودي الروسي، وبذلك انقذ قطاع غزة.
تم توقيع اتفاقية الهدنة مع مصر في 24 فبراير سنة 1949، وتقضى الاتفاقية بأن خط الهدنة هو خط وقوف القوات العسكرية وليس حدوداً، ولا يمنح حقاً أو يمنعه عن اى طرف. وهو خط مؤقت إلى حين الاتفاق على حل دائم. وكانت حدود هذا الخط تحصر قطاع غزة، وتحصر قطاع العوجة في الجنوب وهى منطقة تقاطع طرق استراتيجية، تكون منزوعة السلاح.
وبعد اسبوعين من توقيع الإتفاقية، خرقتها إسرائيل (---) بأن انطلقت في طابورين منفصلين إلى الجنوب مخترقة الاراضي المصرية في سيناء وغرزت علم إسرائيل في أم رشرش على خليج العقبة التى أصبحت إيلات فيما بعد.
-
-
كانت خسائر الجيش المصرى في هذه الحرب 100 ضابط و861 جندياً و200 شهيد غير جندى، فيكون مجموع الشهداء 1161 فرداً.
بقى صامدا في الفالوجة السيد طه الملقب بالضبع الأسود. (40) وحسب شروط الهدنة خرجت قواته بكامل سلاحها مع شرط بقاء أهالى الفالوجة وعراق المنشية في ديارهم بتعهد من إسرائيل والأمم المتحدة.
ما أن خرجت القوات المصرية من الفالوجة حتى نقضت إسرائيل تعهداتها كالعادة (41) وهجرت أهاليها إلى غزة وانضموا إلى قافلة اللاجئين في قطاع غزة.
المفارقة التاريخية الثانية في هذه البقعة من الأرض ان الضابط جمال عبد الناصر مثل زميله التركي قبل 30 عاماً الضابط عصمت بيك ادرك ان الهزيمة ليست نابعة من قلة الشجاعة ولكن من فساد الحكم في عاصمة بلاده فعاد إلى القاهرة وبدأت ثورة 23 يوليو.
-
-
-
نعود الآن إلى قطاع غزة الذى اصبح يضم 300 آلف مواطن ولاجىء، (2-42) هؤلاء كانوا أهالي 247 قرية سقطت في يد العدو وهُجّروا إلى هذا القطاع الصغير وازدحموا في 8 معسكرات لاجئين محاصرة محاطة بإسرائيل والبحر ومصر، ولها 4 منافذ على العالم، 3 منها نحو إسرائيلو 1 نحو مصر.
ولعلكم تعجبون إذا قلت لكم أن حدود خط الهدنة في قطاع غزة التى ترونها كل يوم ليست هى خطوط الهدنة الحقيقية.
هذا الخط الأحمر (4-43) الذى ترونه هو خط الهدنة حسب الإتفاقية الرسمية وبموجبه تكون مساحة القطاع 550 كم 2. والذى حدث أن اليهود اشتكوا للجنة الهدنة المشتركة أن كثيرا من اللاجئين يعبرون الخط ويعودون إلى ديارهم مما يؤدى إلى حوادث كثيرة، وطلبوا من زملاءهم المصريين اعضاء لجنة الهدنة المشتركة وهم محمود رياضو صلاح جوهر عمل منطقة عازلة مؤقتة بعرض 2 إلى 3 كم لتخفيف التوتر. وتم تخطيط هذا الخط الأزرق بموجب اتفاقية مؤقته اسمها "اتفاقية التعايش" في فبراير 1950، أى بعد سنه من اتفاقية الهدنة الأصلية. وهذه تنتقص من مساحة غزة 200 كم2. كانت هذه الاتفاقية سرية ولم تعلن لا في مصر ولا في فلسطين ووقعت سراً في العوجة بعيداً عن غزة. وتنص الإتفاقية على أنها مؤقته ولا تلغى الإتفاقية الأصلية. ولكن من الغريب حقاً انه لم يطالب بالعودة إلى الخط الاصلى لا مصر ولا القيادة الفلسطينية حتى يومنا هذا.
-
-
-
هذه الحوادث كلها على سائر الجبهات العربية أدت إلى النكبة وهجر أهالي 675 قرية وتبعثر أهلها في المنافي وأكبرها قطاع غزة. (44).
وضاعت فلسطين. الجزء الأكبر منها (78%) وقع في قبضة العدو الصهيوني. وتبقى منها قطاع غزة (1%) تحت الإدارة المصرية المدنية وبقى علم فلسطين يرفرف عليها. والضفة الغربية (21%) ضمها الملك عبدالله إلى الأردن لتصنع المملكة الهاشمية الأردنية. وبقى شريط على شاطئ نهر الأردن بين بحيرتى الحولة وطبرية تحت السيطرة السورية.
ومنذ عام 1948 لم تدخل أى دولة عربية حرباً نظامية لتحرير فلسطين. وكل الحروب التى تلت كانت لصد عدوان إسرائيلي على أراضيها ذاتها. وبقى الشعب الفلسطينى في مواجهة إسرائيل.
استمر الفدائيون الفلسطينيون في قطاع غزة في غاراتهم على العدو المحتل خلافا لتعليمات حكومة الملك فاروق ومن بعدها حكومة الثورة. وكان الفدائيون عند عودتهم من غاراتهم يخشون إلقاء القبض عليهم عند العودة، لكن الامور تغيرت كثيراً بعد ذلك.
تواصلت الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة من تدمير لمراكز الشرطة ومخيمات اللاجئين إلى أن قام اريل شارون بغارة على المواقع العسكرية المصرية في محطة غزة في 28 فبراير1955 وقتل 38 جندياً مصرياً. عندها قام عبد الناصر بعملين جريئين: الاول هو تسليح الجيش المصرى بأسلحة تشيكية بالاتفاق مع الاتحاد السوفيتى، والثاني تجنيد الفدائيين رسميا بقيادة مصطفي حافظ.
وفي العام التالي تجمع ثلاثة اعداء على مصر وزعيمها جمال عبد الناصر لاهداف مختلفة: ايدن البريطاني للسيطرة على قناة السويس وموليه الفرنسى للانتقام من مساعدة مصر للثورة الجزائرية، وبن جوريون للقضاء على زعيم العرب الأول والقضاء على العمل الفدائي ولتحويل خطوط الهدنة إلى حدود بالامر الواقع.
وفي أكتوبر 1956 فيما عرف بالعدوان الثلاثي هاجمت القوى الثلاث مصر، واندحرت تلك القوى بعد 6 شهور بسبب التفاف الشعب المصرى حول قائده وادانة العالم للعدوان وتدخل امريكا التى لم تستشر قبل العملية.
أما اللاجئون الفلسطينيون في غزة فكانوا يحاربون في ثلاث جبهات، وليس لهم معين إلا القليل. الجبهة الأولى العمليات الفدائية ضد المحتل الإسرائيلي. والجبهة الثانية الاحتلال الإسرائيلي لغزة في العدوان الثلاثي واقترافه أكبر مذبحة في تاريخ فلسطين حتى ذلك التاريخ. إذ قتل الإسرائيليون حوالى 520 شخصاً في خان يونس في 2 نوفمبر 1956، سحبوهم من بيوتهم واردوهم قتلى، ثم اقترفوا مذبحة أخرى في رفح في اليوم التالي. وهكذا كانت غزة الضحية الكبرى والمباشرة للعدوان الثلاثي. أما الجبهة الثالثة فهى من نوع جديد بدأت قبل العدوان الثلاثي بعدة سنوات.
في اوائل الخمسينات وافقت الحكومة المصرية الملكية على مشروع قدمته الامم المتحدة برعاية امريكية بتخفيض الضغط السكانى على قطاع غزة ونقل بعض المخيمات إلى ساحل سيناء بين القنطرة والعريش، ومن المدهش حقا ان عبد الناصر بتوجيه من محمود فوزى وزير الخارجية وافق على هذا الاقتراح في عهده. وبدأت بعثة الأمم المتحدة في الدراسة اللوجستية لهذا المشروع. (45)
-
-
قامت قيامة اللاجئين في قطاع غزة واشتعلت المظاهرات في جميع قرى غزة لاسقاط المشروع وحرقوا مخازن التموين لوكالة الغوث مطالبين بتجنيدهم وإعطاءهم السلاح للعودة إلى الوطن. وعلى مدى عامين 1953 – 1954 قامت سلطات الحاكم الإدارى المصري في غزة باعتقال العديد من زعماء المعارضة لتوطين اللاجئين في سيناء، ومن بينهم الشاعر معين بسيسو الذى قضى 8 سنوات في السجون في الصحراء الغربية. هذا مثل آخر، إن احتجنا إلى دليل، على إصرار الشعب الفلسطينى على العودة إلى الوطن، دون بديل له.
لقد أدى عبد الناصر خدمات جليلة إلى فلسطين في قطاع غزة. وكان صادقاً أيضاً وصريحاً. أما صدقه فقد صرح لوفد من زعماء غزة الذين زاروه أنه "ليس لديه خطة لتحرير فلسطين"، فلا تنتظروا ذلك منه. أما خدماته الجليلة فقد فتح جامعات مصر للطلاب الفلسطينيين المتعطشين إلى العلم مجاناً دون رسوم، وخرج جيل من المهندسين والاطباء والعلماء خدموا وطنهم وعائلاتهم. كما انه نقل قضية فلسطين إلى العالم. وبعد مؤتمر باندونج في عام 1955، دعا عبد الناصر زعماء العالم الثالث لزيارة غزة (46) والاطلاع على قضية اللاجئين. فزارها نهرو وتشى جيفارا كما ان محمد نجيب زار غزة بعد توليه الرئاسة.
ورتب عبد الناصر زيارة أول وفد فلسطينى إلى الأمم المتحدة عام 1961 لكى يعرض قضية فلسطين باسم أهلها، وكانت قضية فلسطين قبل ذلك تعرض باسم وفد دولة عربية. وشجع عبد الناصر انتخاب أول مجلس تشريعى في تاريخ فلسطين 1962. وشجع تجنيد الفلسطينيين وكانت غزة مقراً لجيش التحرير الفلسطينى.
ثم وقعت الكارثة الثانية: نكسة 1967. وعاد العدو الصهيونى لاحتلال غزة وينكل بأهلها ويدمر معالمها. ولا يزال هذا الجرح العميق يدمى إلى يومنا هذا. هذا الجرح وإن كان احتلال وطن، وهزيمة عسكرية، وسقوط شهداء، فقد أصبح بعد ذلك مدخلاً إلى سياسة جديدة غيرت مفاهيم الأمن القومي العربي.
عندما وقعت مصر وإسرائيل معاهدة السلام في 26 مارس 1979، اعترفتا بالخط الإداري المرسوم عام 1906 كخط حدود دولية بينهما. وبموجب الاتفاقية اعترفت إسرائيل بأن المنطقة الواقعة غرب الخط مصرية، واعترفت مصر بأن المنطقة الواقعة شرق الخط ‘إسرائيلية’ (أي، ليست فلسطينية)، رغم أن الجزء الأكبر من المنطقة تم احتلالها من قبل إسرائيل بعد توقيع اتفاقية الهدنة عام 1949. لكن مصر لم تعترف بإسرائيلية الأرض في ذلك الجزء من الخط عند رفح الذي يشكل خط الحدود الغربي لقطاع غزة.
وحسب معاهدة السلام، فإن مصر استرجعت السلطة المدنية الكاملة على سيناء واسترجعت سلطة عسكرية محدودة عليها حسب 4 قطاعات، شمالية جنوبية، قسمت سيناء عسكرياً بحيث يكون أقل تواجد عسكرى مصرى على القطاع الملاصق لإسرائيل وأكثره شرق قناة السويس ولكنه ليس كاملاً في كل الحالات.
هذه الخريطة (47) تبين الشرائح الاربعة: ثلاث منها في سيناء وشريحة رابعة في إسرائيل. وبينما تحتاج القوات المصرية الضاربة إلى 200 كم لتعبر من قناة السويس إلى إسرائيل، تحتاج القوات الإسرائيلية لعبور 2 كم للوصول إلى سيناء. أما المنطقة ج المحاذية لفلسطين وإسرائيل فهى مراقبة من قبل القوات الدولية (MFO) في هذه النقاط التى ترونها. وتكاليفها السنوية 75 مليون دولار تدفع مصر وإسرائيل والولايات المتحدة كل منهما الثلث.
وكلمة قوات دولية هى مجاز فقط لان نصف القوات البالغ عددها 1600 جندى هم جنود امريكيون (48) ولديهم نقاط مراقبة غزيرة العدد في الأرض والجو والبحر. ترسل كل هذه النقاط اشاراتها وصورها إلى مركز معلومات واحد يرصد كل التحركات.
-
-
-
-
-
-
أين هو مركز المعلومات هذا؟ في إسرائيل. (49). لست محتاجاً إلى أن انبهكم إلى مغزى ذلك. بل وأكثر من ذلك. كانت هناك محطة تنصت إسرائيلية امريكية في ام خشبة قرب قناة السويس. انتقلت هذه المحطة بعد معاهدة السلام إلى العمارة شرق خان يونس في مستعمرة (أوريم) (50). وتوسعت بشكل هائل بمعونة امريكية، مادية وتقنية، وأصبحت تتصنت على الاتصالات من كل الانواع في مصر والبلاد العربية بل وأوربا أيضاً بما في ذلك الملاحة البحرية والجوية في اوسع منطقة ما بين باريس ودلهي.
وعندما نقول أن إسرائيل عدو استراتيجي لمصر، نعتمد على الوقائع المادية (51). إذ يوجد في إسرائيل أكثر من 1000 نقطة استراتيجية عسكرية معظمها كما هو مبين موجه إلى مصر. هذه النقاط هى اما قواعد عسكرية أو مخازن أسلحة دمار شامل أو محطات صواريخ. ومن بينها 55 مطاراً، تصل منه الطائرات إلى أسوان وطهران.
من ذا الذى يمكن أن ينام مطمئناً، وعدو له يتربص به وله سجل دامٍ ووحشي منذ أكثر من ستة عقود؟
هل نحن في حاجة إلى دلائل من كتاب التاريخ، ونحن نرى في حياتنا اليومية خلال السنوات الماضية ثلاثة حروب على قطاع غزة. (52) ولماذا القطاع بالذات؟ لماذا يدكّ كل شبر فيه، بما في ذلك المستشفيات والمساجد والمدارس والعمارات السكنية؟ لماذا يسقط الاف الضحايا المدنيين الابرياء؟ أليست هذه حرب إبادة، سريعة بالمدافع، وبطيئة بالحصار؟
الجواب عند جابوتنسكى الصهيوني: عقيدة جابوتنسكى التى أعلنها عام 1923، لا تزال دستوراً لبن جوريون وديان وشارون ونتانياهو. تقول هذه العقيدة" "إن الاعتقاد بأن العرب سيقبلوننا بينهم محض وهم وخيال. ولذلك لا يمكننا استعمار فلسطين إلا بأن نضربهم بقوة بالغة تفوق قوتهم بكثير. ثم نبنى حولنا جداراً حديدياً لا يخترقونه، وننتظر خضوعهم. هذه هى سياستنا نحو العرب باختصار، وغير ذلك نفاق".
لقد احتلت إسرائيل الأرض وطردت أهلها. لكن العدو الاهم والاخطر بالنسبة لإسرائيل لا يزال باقياً، وهو عقيدة المقاومة واول مبادئها الصمود والبقاء. (53) وهذا هو سبب الاعتداءات الوحشية المستمرة على قطاع غزة. وهذا هو سبب القتل والتدمير لمخيمات اللاجئين في كل بقعة من قطاع غزة. وقبل ذلك في مخيمات اللاجئين في جنين وعسكر وقلنديا وصبرا وشتيلا. هم يريدون القضاء على ما تبقى من عناصر المقاومة والصمود على أرض الوطن.
وأقولها بكل موضوعية: إن صمود قطاع غزة المحاصر أمام العدو المجّيش، بكل ما يملكه من ادوات الدمار، وأهل القطاع محاصرون من البر والبحر والجو، ماؤهم مقطوع وهواؤهم ملوث وأرضهم مندكة، لهو يحاكى بل يفوق صمود ستالينجراد أمام الغزو النازي ويتجاوز بعشرات المرات انتفاضة معتقلات وارسو ضد النازية.
والآن ماذا يمكننا أن نتعلم من تاريخ مائتى سنة لهذا المشرق العربي بجناحيه مصر وفلسطين؟
أول درس: يجب أن نعيه هو أن بلادنا كانت دائماً هدفاً للاستعمار الغربي. وأن هذا الاستعمار كان دائماً يعمل من خلال تحالفات بين دوله للتنسيق وتوزيع الادوار والغنائم. وكانت حملات الاستعمار تفشل إذا انفرد بعضهم عن الآخرين، مثلما دمر الانجليز اسطول نابليون في أبى قير، وأجبرت أمريكا دول العدوان الثلاثي على الانسحاب عام 56.
وثاني درس: أن كل الحدود العربية هى حدود خطها الاستعمار لحماية مصالحه. ولم يستشر شعبها ولم يعمل له حساب إلا من حيث الخوف على أمنه. والمدهش حقاً أن حكومات الدول العربية تمسكت بهذه الحدود، وبنت عليها اسواراً، وخلقت لها جنسيات وجوازات ذات ألوان مختلفة.
وثالث درس: كما أكد تاريخ الصهيونية، أن اسلوبهم هو القتل والتدمير والبطش حتى يحل اليأس بالعرب ويطلبون السلامة في الخضوع. وأثبت تاريخهم أن أمنهم هو ضعفنا، وأن خيرهم هو شرنا، وأن سلامهم هو استسلامنا. ونقول لمن لا يؤمن بذلك: لا تنتظر حتى يقال لك: أكلتك يوم أكلت الثور الابيض.
ورابع درس: هو أن قضية فلسطين هى قضية العرب الأولى، ولا شك في ذلك وإن اهتز هذا الشعار في أزمنة الهوان. فمنذ النكبة عام 48، سقطت عروش واختفى رؤساء وتغيرت حكومات. ولا يكاد حدث مر خلال 60 عاماً إلا وفلسطين أحد العوامل المؤثرة فيه. ورغم أن إسرائيل احتلت كامل فلسطين والجولان ولها موطئ قدم في أماكن أخرى، إلا أن الشعب الفلسطينى لا يزال موجوداً، تضاعف 8 مرات إلى أن وصل إلى 12 مليون نسمة، نصفهم في فلسطين، ولا يزال يقاوم.
وخامس درس: أن مقاومة الاحتلال والاستعمار هى السبيل الوحيد للحرية على أرض الوطن، ولكرامة أهله، ولصون تاريخه، وأن العجز ليس سياسة، والهروب ليس هو المخرج، والتوسل إلى العدو لن يجلب حقاً، وأن التفرق والانعزال هو داء العرب ودواء العدو. والمقاومة مثل جوهرة الماس، لها أوجه عديدة، كلها نافع وله دور.
وسادس درس: أن القادة يموتون ولكن الشعوب لا تموت. إن شعلة الحرية مهما خبت لن تنطفئ ابداً. وإن نكصت بعض الحكومات العربية عن مجابهة العدو، فإن الشعوب تنهض من وراء الركام والدمار (54)، وأثبتت أنها بالمقاومة تستعيد حقاً وتصد عدواً. وفي مقاومة غزة ومقاومة لبنان وهبات الربيع العربي وثورة الشعب المصرى على الظلم من عام 1919 إلى يومنا هذا، مثال حي على حيوية الشعب العربي.
فلتكن الشعوب قدوة للقادة، وليكن التاريخ معلّماً لمن جهلوه، وليكن العيش بكرامة أهم من رغيف الخبز مع الذل. ولنحفظ لهذا التاريخ الطويل أصالته، ولهذه الجغرافيا التى تتوسط العالم مكانتها المميزة.
وما ضاع حق وراءه مطالب.