مقدمة:
لقد مر الآن تسعون عاماً، منذ عام 1916، على الهجمة الاستعمارية الاستيطانية على الأمة، خصوصاً في هذه البقعة من شرقي البحر المتوسط. وخلال هذه المدة الطويلة من الحرب المستمرة بأشكال مختلفة، برز عنصر رئيس في هذه الحرب، وهو عملية التنظيف العرقي لفلسطين، التي بدأت بشكل سافر وعلى نطاق واسع عام 1948، ولا زالت مستمرة إلى اليوم. وستبقي مستمرة إلى أن يتم القضاء على تلك المخططات الشريرة قضاء مبرماً.
ما هو التنظيف العرقي لفلسطين؟
من المعلوم أن أهداف الصهيونية ثلاثة مترابطة. الأول: هو القضاء على الشعب الفلسطيني إما بالقتل أو الطرد أو الترهيب والاحتلال إلى أن يترك أرضه، والثاني: هو الاستيلاء على أرضه وممتلكاته ومقدراته واعتبارها ملكاً شرعياً خالصاً لليهود في أي مكان في العالم. والثالث: هو إزالة آثارهذا الشعب الدينية والتاريخية والثقافية ومحو إسمه وهويته من الوجود.
هذه الأهداف الثلاثة هي التي سعت إليها الصهيونية خلال تاريخها الطويل منذ عام 1897، ولكن بأساليب مختلفة، خلال العهد التركي، وخلال الانتداب البريطاني الذي وضع الأسس القانونية لزيادة عدد المستوطنين اليهود من خلال الهجرة اليهودية ولإيجاد موطئ قدم لهم على أرض فلسطين من خلال قوانين الأراضي، وأخيراً خلال الغزو الصهيوني لفلسطين عام 1948 وما بعد ذلك.
في عام 1948، بدأت أكبر عملية منظمة للتنظيف العرقي في فلسطين نفذت بتخطيط دقيق، بدعم سياسي وعسكري ومالي من القوي الاستعمارية الغربية واليهود المتمكنين فيها، ليس له مثيل في التاريخ الحديث.
في عام 1948، تم تهجير أهالي 675 مدينة وقرية فلسطينية، من خلال اقتراف 70 مذبحة أثناء العمليات العسكرية لتهجير الأهالي، وتم الاستيلاء على 19 مليون دنم من الأراضي الفلسطينية التي تمثل 93% من مساحة إسرائيل، وتم الاستيلاء على الأملاك والأموال الخاصة بالفلسطينيين في كل تلك القرى والمدن، وتم الاستيلاء على 2000 مليون متر مكعب من المياه العربية سنوياً، وتم الاستيلاء على حوالي 30 مطاراً عسكرياً ومثلها معسكرات للجيش البريطاني، وكذلك حوالي 2000 مبني حكومي وآلاف الكيلومترات من الطرق وسكك الحديد وعشرة آلاف مَعْلم تاريخي وديني. ليس هذا فحسب، بل استولت إسرائيل على التراث الرسمي والثقافي لفلسطين مثل كل وثائق تسجيل الأراضي، وخرائط المساحة، وسجلات الولادة والوفيات، وسجلات التعليم والزراعة والصناعة والبنوك.
لقد كانت هذه أكبر وأطول عملية نهب في التاريخ الحديث. نحن نعلم أنه في كل الحروب، تحدث فظائع وقتل جماعي وترحيل سكان ونهب وسلب. ولكنها كلها تختفي بعد انطفاء لهيب الحرب، الإ في إسرائيل. فهذه العمليات التي تقترفها إسرائيل لا تزال منظمة ومستمرة في الحرب والسلم، أساليبها وأعذارها مختلفة. ولذلك فهي تعتبر أكبر جريمة حرب وأكبر جريمة سلم في آن واحد وهي جريمة ضد الإنسانية، ولن يهرب أحد في العالم من آثاره بشكل أو آخر.
إذن لابد من إزالة هذه الجرائم وإزالة آثارها بإصلاح ما أفسدتْ، وهجّرتْ ودمرت وسرقت. أي كما يقال في قانون التعويض الدولي: لابد من "إرجاع الشيء إلي أصله".
وهذا يتم بتطبيق حق العودة. ولن يمكن تطبيق هذا الحق إلا بالمقاومة. ما هو هذا الحق؟ وما هي المقاومة المطلوبة؟
حق العودة هو نقيض التنظيف العرقي وعكس آثاره، وذلك بإرجاع الحق إلى أهله وعودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها بالإضافة إلى تعويضهم عن كل ما خسروه خلال نصف قرن مادياً ومعنوياً.
حق العودة هو "حق غير قابل للتصرف"، إذ لا تجوز فيه المساومة ولا ينقضه اتفاق أو معاهدة سياسية، ولا يجوز فيه تمثيل الغير بالتصرف فيه، وهو حق فردي في أصله وحق جماعي بموجب عدد المطالبين به والمستحقين له.
إن نصف قرن من حروب إسرائيل واحتلالها واعتداءاتها لم تفلح قط في ثني الفلسطينيين عن الإصرار على المطالبة بحقهم وبذل الروح والمال في سبيل العودة إلى الوطن.
لماذا هذا الإصرار؟
لأن حق العودة مقدس. ففلسطين هي أرض الرباط، والقدس هي أولي القبلتين وثالث الحرمين. والدفاع عنها واجب إسلامي شامل، كما أنه واجب وطني أول. فحق العودة مقدس في وجدان كل فلسطيني، مهما تغرّب وأينما حملته الأيام، وكيفما كانت حاله.
وحق العودة قانوني، فهو كذلك في الشرائع السماوية، وهو أيضا محفور في صخر القانون الدولي وحقوق الإنسان. وقد تم التأكيد على قرار عودة اللاجئين وهو قرار 194 الصادر من الأمم المتحدة أكثر من 130 مرة، كما تم التأكيد عليه في "إعلان حقوق الإنسان العالمي" وفي جميع المواثيق الإقليمية: الأوربية والأفريقية والأمريكية، وكلها تدعو إلى حق الإنسان في العودة إلى بيته.
ولقد تم تطبيق هذا الحق في البوسنة وكوسوفا وأبخازيا وتيمور الشرقية وأفغانستان والعراق وجنوب أفريقيا وجواتيمالا وغيرها كثير.
تمت العودة في كل هذه البلاد بقرارات دولية أقل أهمية وعدداً من قرارات فلسطين. وتمت أحيانا بالقوة العسكرية – خصوصاً قوات الناتو في البوسنة – تطبيقاً للقانون الدولي.
لماذا لم يطبق حق العودة في فلسطين؟ ولماذا لم ترسل أمريكا وأوربا قواتها لتنفيذ قرارات المجتمع الدولي، بل وقرارات محكمة العدل الدولية، في فلسطين تحقيقاً للعدالة الغائبة لأكثر من نصف قرن؟
الجواب واضح لديكم تماماً. لأن هذا المجتمع الغربي هو الذي زرع إسرائيل وهي سلاحه الاستعماري الاستيطاني، وهو الذي فرض وجودها بالقوة، وأمدها بكل الوسائل لتقتل وتحتل وتطرد وتستعمر وتستوطن.
ما الحل إذن؟ الحل هو في المقاومة ضد الظلم والطغيان.
والمقاومة في عصرنا هذا لم تعد سيوفاً وخيلاً فحسب، بل هي منظومة متكاملة من الدفاع عن الحق في جميع ميادينه.
المقاومة تبدأ من بناء الشخصية الفلسطينية والعربية والإسلامية وذلك عن طريق التربية الوطنية للنشء، وعن طريق التمثيل البرلماني الصحيح للفلسطينيين، وهذا يستوجب عقد انتخابات نسبية نزيهة للمجلس الوطني الفلسطيني الجديد في أسرع فرصة بحيث يشمل كافة الفلسطينيين في العالم. وهذا أكبر حماية لحق العودة، حتى لا يحتكر بعض الناس تمثيل الفلسطينيين وتقديم التنازلات باسمهم دون تفويض من الشعب الفلسطيني أو موافقته.
والمقاومة أيضاً، مثل اجتماعكم هذا، دعوة المحافل البرلمانية الدولية إلى الوقوف ضد الظلم، وتشريع القوانين ضد العنصرية والفصل العنصري.
وإذا ما اقتنعت برلمانات عديدة بعدالة القضية، فإنها تسن التشريعات في بلاد ضد الاحتلال والعنصرية في فلسطين. وإذا كانت بعض البرلمانات تسنّ ظلماً قوانين ضد المسلمين، وتسنّ ظلماً قوانين تساند إسرائيل وتقيم الحصار على الفلسطينيين، فالأولي أن تقوم برلمانات الشعوب الحرة بسنّ قوانين تعكس هذا الظلم وتعيد الحق إلى أهله.
والمقاومة أيضاً مقاطعة اقتصادية لكل ما يصنع العدو أو يشترك في صنعه وإدارته، لأن الأموال التي تتوفر له دون المقاطعة هي أموال تقتل الأطفال والنساء وتحتل الأراضي وتدمر الممتلكات. ولقد بلغ الظلم والقهر حداً جعل مجموعات متنورة في أمريكا وبريطانيا تدعو إلى مقاطعة إسرائيل اقتصادياً (Divestment)، وقد نجحت هذه الدعوة على نحو مشجع في بعض الجامعات والكنائس، ولا شك أن هذه الحركة ستستمر في النمو.
والمقاومة أيضاً هي مقاطعة الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، وهذه، على عكس ما قد يبدو، مهمة للغاية. ذلك لأن الجامعات الإسرائيلية هي التي تُصنّع فيها أو بواسطتها أسلحة الدمار الشامل من نووية وكيماوية وبيولوجية. علماؤهم هم الذين زرعوا التيفود في غزة وعكا عام 1948، وهم الذين أنتجوا الغازات السامة لضرب الانتفاضة، والقنابل العنقودية لضرب لبنان، والقنابل الفراغية لتفتيت أجساد الناس في غزة، وحقنات السم لمحاولة قتل خالد مشعل. كما أن أساتذتهم هم مخططو الاحتلال ومستشاروه القانونيون. ولذلك فإننا نقدر كل التقدير حملة أساتذة بريطانيين لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية التي نجحت رغم الضغوط الشديدة. وستنجح أكثر في المستقبل.
والمقاومة أيضا هي تنوير المجتمع الدولي، خصوصاً بالتعاون مع المنظمات الدولية المتعاطفة مع فلسطين وهي كثيرة جداً. وهذا يستدعي أن نشرح لهم الحقائق بعقلانية وأسلوب يتناسب مع ثقافتهم. ونحن لا نحتاج إلى المبالغة أو التطرف. والله يعلم أن جزءاً من الحقائق، وليس كلها، يكفي لأن يدرك العالم كله عدالة قضيتنا والظلم الذي نريد إزاحته عن كاهلنا.
تبقي المقاومة الشعبية، وهي أولها وأهمها، بل وأقدمها في نضال الشعوب نحو حريتها.
وإذا ما استرجعنا تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني منذ مائة عام، نجد أن المقاومة الشعبية كانت هي المدافع الدائم عن الحقوق الوطنية الثابتة. ففي فلسطين، لم تحارب الأنظمة العربية منذ عام 1948 إلى اليوم حرباً واحدة عدا عام 1973، التي كان ثمنها خروج مصر من حلبة الصراع. لكن الحرب المستمرة كانت هي المقاومة الشعبية عام 1936 إلى ما قبل 1948 – عندما سحبت القوات العربية السلاح من الشعب الفلسطيني عام 1948، ثم فترة الثورة الفلسطينية من عام 1969 إلى 1982، ثم الانتفاضة الأولي والثانية.
وفي لبنان، خلال شهر يوليو الماضي، وقبلها بسنوات، ضربت المقاومة الوطنية اللبنانية، بقيادة حزب الله، أروع الأمثلة في الفداء، وفي التنظيم، وفي الكفاءة، وهي صفات فاقت في مجموعها المقاومة الفلسطينية، إن لم يكن من حيث الفداء، فعلي الأقل من حيث التنظيم والكفاءة.
وتتناقل إسرائيل وحلفائها التقارير والتحاليل، عما إذا كان نصر حزب الله يشكل نموذجاً يجدر بالفلسطينيين الاقتداء به، وتحسباً لهذا الموقف، فقد بدأت إسرائيل حرباً تتسع كل يوم على قطاع غزة لمنع المقاومة هناك من تطوير أسلحتها ووسائلها، وسربت تقارير استخبارية تهوّل من هذا الخطر لكي تبرر البطش والقتل والدمار في غزة.
والسؤال هل يمكن الاقتداء بنموذج حزب الله وتطبيقه في غزة والضفة؟ وللجواب عدة أوجه. أولها أن المقاومة الشعبية ضرورة لابد منها، بشرط أن تكون في غاية التنظيم والكفاءة، أما التضحية بالنفس والمال فهي موجودة. وثانيها أن الوضع في غزة يختلف عن وضع حزب الله أثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان من حيث التضاريس ومن حيث أن جبهته الوطنية وظهيره وقاعدته الجغرافية موجودة وساندة.
ومع ذلك فإن إمكانيات المقاومة الشعبية في فلسطين لا حدود لها، فالمنطقة المحتلة عام 1948 ما بين غزة والخليل لا تزال نسبياً خالية من السكان، عدا المدن الرئيسة، والمسافة بين غزة والخليل لا تتجاوز 30 كيلو مترا في أضيق نقطة. وفي كل جنوب فلسطين من الرملة حتى العقبة لا يتجاوز عدد المستوطنين في المستعمرات 70،000 شخص، عدا المدن، أي ما يساوي سكان مخيم واحد.
وفي الشمال، لا تتجاوز المسافة بين حدود لبنان وجنين 50 كيلو مترا في أضيق نقطة، وبين المنطقتين تقع منطقة الجليل الذي لا يزال يتمتع سكانه الفلسطينيون الأصليون بأغلبية تفوق المستوطنين. هذان المثلان ينيران الطريق لنا حول وسائل المقاومة الشعبية.
العدو الصهيوني يعتمد في عدوانه على تحصين نفسه بالتحرك في قلاع جوية وأرضية وبالتكامل في أسلحة الجو والبر والبحر، ويبتعد عن التشابك والمجابهة البشرية.
من هنا نستنبط نقاط القوة للمقاومة الشعبية الفلسطينية، فيجب الاعتماد على عنصر الشجاعة الفردية والتضحية التي لا توجد عند العدو، ويجب استغلال القدرة على الانتشار العددي الواسع الذي يخلق ميادين مجابهة كثيرة ومتعددة في نفس الوقت. وفي جميع الأحوال، لابد من الكفاءة والتنظيم، ولنا في حزب الله قدوة حسنة.
والخلاصة أنه لابد من استمرار المقاومة بكل أشكالها لاستعادة الحقوق الوطنية الثابتة. لقد عاني الشعب الفلسطيني حوالي مائة عام من الحروب والتشريد والاضطهاد والاحتلال، ولكنه لا يزال صامداً جيلاً بعد جيل، في وجه الطغيان الإسرائيلي. لم يستسلم ولم يركع. إسرائيل العنصرية لا ترتكز على حق أخلاقي أو قانوني أو تاريخي، وإنما ترتكز على عنصر واحد هو القوة العسكرية. وقد أثبت حزب الله أن المقاومة الصادقة تفشل فعالية هذا العنصر الوحيد الذي ترتكز عليه إسرائيل.
ولا شك عندي في أن الشعب الفلسطيني بصموده الأسطوري سينتصر ويستعيد حقه ووطنه وأرض الرباط المقدسة.
وما ضاع حق وراءه مطالب.
والسلام عليكم ورحمة الله.