من البديهيات أن لنا وطنا اسمه فلسطين يمتد من رأس الناقورة شمالاً إلى أم رشرش جنوبا، ومن رفح غربا إلى نهر الأردن شرقا، وأن أهله فلسطينيون جزء من الأمة العربية منذ قرون. ومن البديهيات أيضا أن الغزو الصهيوني الإستعماري الأوروبي قد حول هذا الوطن إلى مستعمرة تمارس العنصرية والأبارتايد والإحتلال والقتل والتدمير على أهل هذا الوطن. ومن البديهيات أيضا أن هذا المشروع الصهيوني الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ فلسطين الممتد علىمدى 5 آلاف عام قد أدى إلى احتلال الأرض وتشريد أهلها من 530 مدينة وقرية، بحيث أصبح ثلثي الشعب الفلسطيني مهجرون من ديارهم، في أكبر عملية تهجير عرقي في التاريخ الحديث وأطولها وأعظمها شراسة وأكثرها دعما من الإستعمار الغربي.
كل هذه البديهيات كانت واضحة وماثلة للعيان، لا تحتاج إلى شرح أو إيضاح لدى الشعب الفلسطيني خاصة والشعب العربي عامة وشعوب العالم التي عانت ويلات الإستعمار.
ثم جاءت كارثة أوسلو، الكارثة التي فاقت في خطرها وعد بلفور المشؤوم. إذ أن وعد بلفور كان اتفاقا سرياً بين طرفين استعماريين في غياب صاحب الحق. أما أوسلو فقد جعلت المحتل الذي شرد أهلنا واحتل بلادنا صاحب حق في أرضنا، وإن كان ذلك ضمنا أو بحسن نية أو بسوء تدبير. والنتيجة هى أن أهم أهداف الفئة التي روجت لأسلو هي نوع من الإستقلال المقزّم في أكبر جزء ممكن من شريحة من ثلاث شرائح في خُمس فلسطين الذى احتله إسرائيل عام 1967. أما احتلال الجزء الأعظم من فلسطين (80%) فقد أهمل وتم القبول به.
وهذا بالتالي نسف البديهيات التي قامت عليها جغرافية وتاريخ فلسطين. من أهم العواقب المدمرة لهذا الإتجاه هو الإهمال أو التغاضي عن المكون الأساسي للصراع العربي الصهيوني. وهو اقتلاع شعب من أرضه وإصرار هذا الشعب على العودة إلى الوطن.
ولذلك فإنه ليس من المستغرب أنه بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 نشأت في جميع أماكن الشتات الفلسطينى جمعيات وتنظيمات ولجان تؤكد حق العودة وتصر عليه كمبدأ وطني أول، لا يسقط بالتقادم ولا بأي اتفاق سياسي سليم أو مشبوه.
وقامت حركة حق العودة في العالم بالتنوير عن هذا الحق، وكيف سلب منا، وكيف يمكن استعادته، وماهي الواجبات الوطنية الملقاة علينا، أو ماهي قوانين الشرعية الدولية لتطبيق ذلك.
كما أن الدعوة إلى التمسك بحق العودة قد جلبت إلينا أفواجا كبيرة من الشباب في البلدان الغربية، على الخصوص الذين اكتشفوا مؤخرا جرائم النكبة وحق الشعب الفلسطيني في وطنه.
اليوم يدور الحديث عن حق العودة في كثير من المنابر الغربية كمكون واحد من ثلاث مكونات لحركة مقاطعة إسرائيل الشهيرة (BDS).
وعلى الرغم من هذا النجاح الكبير في التنوير وانتشاره غير المتوقع بين الشباب في العالم الغربي، إلا أنه بقي عاجزا عن التأثير في مجرى الأحداث الرسمية والقانونية. ذلك لأن لجان حق العودة التي انتشرت بين الفلسطينين لم تتوفر لها قاعدة قانونية أو رسمية تمكنها من تحويل هذه المبادئ إلى قوانين في البرلمانات وإلى قرارات رسمية حكومية. وذلك رغم أننا، من بين آخرين غيرنا، قد قمنا بعقد مؤتمرات للفلسطينيين في عدة مدن من عواصم العالم ندعو إلى إصباغ القوة القانونية والتشريعية على أعمال لجان العودة. أو بمعنى آخر مشاركة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بشكل مباشر.
لماذا نشأت هذه الهوة الكبيرة بين الفكر والعمل؟ بين الدعوة والتنفيذ؟ بين القول والفعل؟
السبب هو التهميش المتعمد لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد كارثة اوسلو التي أنشئت أساسا للقيام بهذا الدور وتخلت عنه بعد اتفاق أوسلو. وهذا خلل عظيم ينقص الأساس الذي قامت عليه المنظمة، وهو أن الشعب الفلسطيني شعب واحد له وطن اسمه فلسطين، وان واجب المنظمة الأول والوحيد هو الدفاع عن حقوق هذا الشعب.
واليوم لدينا أكثر من 7ملايين فلسطيني مهجر من وطنه. وقد يصل العدد إلى أكثر من ذلك إذا أخذنا في الإعتبار الذين هجروا أكثر من مرة أو الذين نزحوا بعد عام 1967.
إذا ماالعمل الآن وقد أفشلت عمدا جميع المحاولات لانتخاب مجلس وطني جديد يمثل 12 مليون فلسطيني؟
هناك عدة اتجاهات يمكن العمل عليها. حيث أن الغرض من إنشاء منظمة التحرير هو لم الشعب الفلسطيني في الشتات تحت راية واحدة، لذلك فإن الخطوة الأولى هي الدعوة إلى إنشاء مجموعات تمثل أحجار البناء في صرح هذا الشعب عن طريق إقامة وتطوير اللجان والنقابات والجمعيات والنوادي والأحزاب ودواوين القرى المهجرة وروابط العائلات وهي التي في مجموعها تكون الشعب الفلسطيني.
ومن هذه التجمعات اقترحنا سابقا، ونجدد الإقتراح اليوم، إنشاء "المجلس الشعبي لللاجئين الفلسطينيين" الذي سيتولى الدفاع عن حقوقهم في كل المنابر العربية والدولية. وبعد ذلك لا بد من السعي الحثيث عن طريق هذا المجلس وعن طريق الجمعيات والروابط المختلفة التي سبقت الإشارة إليها إلى انتخاب مجلس وطني جديد تنيثق عنه قيادة فلسطينية جديدة تمثل الحقوق الفلسطينية الثابتة التي لا تنازل عنها والتي أيضا تمثل الشباب الذين يبلغ تعدادهم اليوم ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني.
وهذا الأمر ليس بالصعوبة الكبيرة لأن الحواجز الجغرافية التي كانت تحد من فعاليات الشعب الفلسطيني قد زالت بفضل وسائل التواصل الإجتماعي ولم تعد الجغرافيا حاجزا لتبادل المعلومات وتنظيم الفعاليات كما هو معلوم. صحيح أن الشعب الفلسطيني اليوم محصور في عدة كنتونات منها فلسطين 1948 تحت حكم إسرائيل، والضفة تحت الإحتلال الإسرائيلي وسلطة اوسلو، وقطاع غزة تحت الحصار، وفلسطينيي الأردن وسوريا تحت سيطرة النظام، وفي لبنان تحت طائلة قوانين منع العمل، وفي الخليج تحت قوانين العمل والإقامة. أما في أوروبا وأمريكا فلديهم حرية نسبية ولو أنها تبقى مهددة بنشاط اللوبي الصهيوني والهجمة العنصرية الجديدة ضد الإسلام.
ومع هذا كله فإنني متفاءل جدا لأنني رأيت الشباب أحفاد الذين عاصروا النكبة لا يزالون متمسكون بحقهم في وطنهم، بل وأكثر إصرارا وبالقطع أكثر كفاءة في الدفاع عن هذا الحق. كما أن السرعة الهائلة في نشر المعلومات قد حدت كثيرا من قدرة الصهيونية على سيطرتها على العقول في الغرب.
وهناك طاقة جديدة يجب الإستفادة منها، وهي أن المعلومات لم تعد تنشر فقط عن طريق الكتب والمقالات، بل أصبحت تنشر على شكل قذائف معلوماتية أو ومضات ضوئية أو إلهامات إلكترونية عن طريق المعلومات أو الصور أو الكرتون أو الفيديو الذي يمثل جرعة قوية من المعلومات في دفعة واحدة.
هذه الثورة التكنولوجية في المعلومات حطمت معظم الأسوار التي أقامتها الصهيونية للحجر على العقول الغربية.
ولكن يبقى العمل الميداني من أهم الميادين التي يمكن العمل من خلالها في أي من الكنتونات الفلسطينيةالجغرافية.
وحيث أن هذه المجلة تصدر في رام الله فإني أهيب بالشباب في الضفة أن ينظموا أنفسهم في تجمعات فعالة وأن ينفذوا برامج تؤكد حق العودة في الميدان العملي عن طريق المقررات والدراسات والندوات والمسيرات والمواقف الوطنية عند المناسبات وغير ذلك.
هذا الأمر مهم جدا لأن الضفة تمثل الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني على بقية واحدة من أرض فلسطين ولكنها للأسف أقلها إنجازا لأسباب معروفة. ومهما كانت هذه الأسباب فلابد من التغلب عليها لأنه لا يجوز لأحفاد المناضلين الذين أشعلوا ثورة 1936 أن يكونوا اليوم في آخر صفوف المدافعين عن الوطن.
فلتعودوا إلى تاريخكم وجغرافيتكم ولتتمسكوا بحقوقكم الثابتة وأولها حق العودة. فحق العودة مقدس وقانوني وممكن بل وحتمي.
وما ضاع حق وراءه مطالب.