المصدر: الحياة، لندن، عدد 16794، صـ 15، مارس 2009
العدوان الوحشي على غزة في نهاية 2008 وبداية 2009، لم يكن بالطبع العدوان الأول ولا الأخير على غزة. إن وضع قطاع غزة الحالي هو في حد ذاته تجسيد لجريمة التنظيف العرقي التي أقترفتها إسرائيل عام 1948 ولا تزال مستمرة الى اليوم. ومن المعلوم أن إسرائيل إغتصبت 78% من مساحة فلسطين، ولكن أبحاثاً جديدة في وثائق قديمة، قد بينت أن إسرائيل قد سرقت بالحيلة والخداع حوالي 200 كيلو متر مربع، أو أكثر من نصف مساحة القطاع الحالي، بالحيلة والخداع. وأن المساحة الحقيقية لقطاع غزة حسب اتفاقية الهدنة هى 555 كيلو متر مربع، وليس 362 كيلو متر مربع، كما هو مذكور في جميع وسائل الإعلام والوثائق المتداولة.
كيف حدث هذا الأمر؟!
في منتصف مايو عام 1948، تقدمت القوات المصرية مثل باقي القوات العربية، لإنقاذ ماتبقى من فلسطين، بعد أن طرد الإسرائيليون نصف اللاجئين وهم تحت حماية الانتداب البريطاني، وإقترفوا المذابح مثل دير ياسين، واحتلوا أهم المدن الفلسطينية الساحلية. وكانت المساحة التى سيطر عليها الجيش المصرى أكثر من مساحة نصف فلسطين أى حوالى 14000 كيلو متر مربع. وصلت القوات المصرية إلى إسدود والفالوجة والخليل وبيت لحم.، وكانت المنطقة الجنوبية عربية خالصة عدا بعض المستعمرات القليلة. وفي منتصف أكتوبر 1948 وجهت إسرائيل قواتها إلى الجنوب لإحتلاله في مواجهة الجيش المصري، بعد إن إحتلت مساحات واسعة في منتصف فلسطين وشمالها. وفي معركة حاسمة بتلة الخيش الواقعة على تقاطع طرق هامً غرب موقع شرطة عراق سويدان تمكنت القوات الإسرائيلية من إختراق دفاعات الجيش المصري في منتصف اكتوبر 1948 وتدفقت نحو الجنوب، وإحتلت مدينة بئر السبع الإستراتيجية، ثم إتجهت غربآ، ونسفت جسر بيت حانون في محاولة لقطع إمدادات الجيش المصري. فإنسحب الجيش المصري بقيادة اللواء المواوي على طول السهل الساحلي من إسدود إلى غزة. وطوقت إسرائيل جيب الفالوجة المشهور، الذي صمد فيه القائد الشجاع السيد طه ومساعده جمال عبد الناصر. وبعد أن إحتلت إسرائيل بئر السبع، إحتلت العوجا ودخلت سيناء متجهة إلى العريش، لقطع خط إنسحاب الجيش المصري، إلا إنها تراجعت بضغط بريطاني، فعادت إلى محاصرة ماتبقى من الساحل الفلسطيني في غزة.
أقيل اللواء المواوي وإستبدل به اللواء محمد فؤاد صادق باشا، الذي أمرته الحكومة المصرية بإكمال الإنسحاب من فلسطين. ولكنه رفض قائلاً: "إزاي أنسحب وأسيب ربع مليون من إخواتي كالفراخ يذبحهم اليهود وينتهكون أعراضهم؟ أتريدني أن أخذهم معي إلى العريش؟ أم أدافع عن رفح؟ كلا لن أنسحب مهما كانت النتيجة؟".
حاولت إسرائيل مرة أخرى مهاجمة الساحل، وشطر قطاع غزة إلى شطرين في موقعة مشهورة تسمى تبة 86 أو تبة الشيخ حمودة. وصمد اللواء صادق باشا بشجاعة، بل إنه أخرج متطوعي الإخوان المسلمين من معتقل رفح، الذين إعتقلتهم فيه حكومة إبراهيم عبد الهادي، وشاركوا في المعركة، ثم أعيدوا إلى المعتقل بعد المعركة. إنهزم الجيش الإسرائيلي هزيمة منكرة، وقتل قائده الروسي، وبذلك تم إنقاذ ما يسمى الأن بقطاع غزة، الذي يتكدس فيه أهالي 247 مدينة وقرية بجنوب فلسطين. وهم الذين طردتهم إسرائيل، وإحتلت أراضيهم بعد إنسحاب الجيش المصري.
بعد هذه الهزيمة الإسرائيلية، بدأت إسرائيل حملة انتقامية وشنت غارات جوية لإبادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين الذين يحاولون العودة إلى ديارهم.
جاء في تقارير مراقبي الهدنة أنه في الفترة 26 – 31 ديسمبر 1948 قصفت إسرائيل جواً مستشفيات ومواقع مدنية في قطاع غزة. وجاء في هذه التقارير تفصيلاً بتاريخ 1949/1/2 أن 4 طائرات إسرائيلية أغارت على مركز توزيع المؤن في خان يونس فدمرته وقتلت 30 مدنياً وجرحت سبعين آخرين.
كما جاء في التقرير الشهرى للصليب الأحمر عن شهر يناير 1949 من مكتب غزة إلى جنيف أنه "في يوم الأحد 9 يناير قُصف مركز توزيع المؤن في دير البلح وهو بالطبع مكتظ باللاجئين وقتل 150 شخصاً (شهود عيان قالوا إن العدد 225). لقد كان مشهداً مريعاً".
لقد كان غرض هذه الأفعال الوحشية هو ترويع الأهالى وردعهم عن محاولة العودة إلى ديارهم وإثبات أن الجيش المصري عاجز عن حمايتهم ودفعه إلى توقيع اتفاقية الهدنة وهو ما حدث في الشهر التالى.
لم توجد مستعمرات صهيونية بين غزة وإسدود على السهل الساحلي وهي أخر نقطة وصل إليها الجيش المصري، عدا مستعمرة(يد مردخاي)، التي إحتلها الجيش المصري قرب دير سنيد. السهل الساحلي من غزة إلى إسدود التى كانت ترابط فيها القوات المصرية على مسافة 30 كم من غزة توجد فيه القرى الفلسطينية الاتية: دير سنيد، دمرة، هربيا، بيت جرجا، بربرة، الخصاص، نعليا، الجية، الجورة، المجدل (عسقلان)، حمامة، إسدود. أما منطقة شرق قطاع غزة حتى بئر السبع على مسافة 50 كم وهى أرض العشائر فلم توجد بها إلا مستعمرتان أو ثلاثة لا يزيد عدد الجنود في كل منها عن 30جنديآ.
ولذلك فإن خط الهدنة الذي تم الإتفاق عليه في إتفاقية الهدنة الموقعة في 24 فبراير1949 بين مصر وإسرائيل، في جزيرة رودس، مكّن إسرائيل من احتلال مساحة 5000 كيلو متر مربع من الأرض العربية لم يسجل لهم فيها أكثر من 60,000 دنم في فترة الانتداب، ولم يسكنها أكثر من 300 جندى في حوالى 11 مستعمرة بنيت قبل سنة ونصف مقابل 200,000 فلسطينى هم الذين هُجّروا إلى قطاع غزة لينضموا إلى 80,000 من أهالى قطاع غزة الأصليين.
كان هذا مكسباً هائلاً لإسرائيل في معارك محدودة بأقل الخسائر البشرية لها وأكبر الخسائر في الأرض والبشر للفلسطينيين.
لم تكن للضباط المصريين المفاوضين في رودس معلومات كافية عن الأرض وأهلها. وكان اهتمامهم الأول بإنقاذ القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة. ولذلك تمت الموافقة على خط الهدنة الذى اقترحته إسرائيل كالطرف المنتصر، خصوصاً وأن تعليمات الحكومة المصرية كانت الانسحاب الكامل من فلسطين، واعتبار أن "كل أرض غير مصرية هى أرض إسرائيلية" كما جاء على لسان أحد المفاوضين المصريين في مذكرات كامل الشريف قائد قوات المتطوعين من الأخوان المسلمين.
في هذه الظروف تم تحديد خط الهدنة كما لو كان سوراً يحيط بقطاع غزة.
جاء في المادة السادسة من إتفاقية الهدنة الفقرة رقم (1):- أن خط الهدنة يجب أن يتم بناءآ على قرار مجلس الأمن الصادر في 4 نوفمبر1948، والمؤكد عليه في مذكرة مجلس الأمن بتاريخ 13 نوفمبر 1948 (أي بإرجاع الوضع كما كان عليه في 15 أكتوبر1948 أو بمعنى أخر إعادة أهل القرى الفلسطينية الجنوبية إلى ديارهم). لكن الإسرائيليين فرضوا خط الهدنة إلى الحد التقريبي الذي وصلت إليه قواتهم. وتمكنوا من تحديد الحد الشمالي لخط الهدنة حسب الفقرة الأولى من المادة السادسة كالآتى: "إنه خط يمتد من مصب وادي الحسي، ويتجه شرقآ خلال قرية دير سنيد، ثم يعبر طريق غزة - المجدل إلى نقطة تبعد 3 كيلومتر شرقى الطريق، ثم في إتجاه موازٍ لطريق غزة المجدل إلى أن يصل إلى الحدود المصرية." وفيما عدا الحد الشمالي الذي يمر بوادي الحسي وديرسنيد، فإن باقي الخط تقريبي، وقد تم تحديده بشكل مفصل في الفقرة الثالثة من المادة السادسة كما يلي:-
لا تتجاوز القوات الإسرائيلية النقاط الأتية، التي يسمح في كل منها بوجود سرية واحدة (30 جندى فقط): ديرسنيد على الضفة الشمالية لوادي الحسي، محجر الكبريت، تل جمة، خربة المعين. وقد أعطيت إحداثيات دقيقة لهذه النقاط، التي تحدد أقصى حد للوجود الإسرائيلي. كما توجب نفس الفقرة على إسرائيل الإنسحاب من نقاط أخرى، موصوفة تعدت فيها هذا الخط. الخريطة رقم(1) تبين هذا الخط الحقيقي حسب الاحداثيات المذكورة في الاتفاقية والذى يفترض أنه يحدد قطاع غزة بموجب اتفاقية الهدنة، وتبلغ مساحته 555 كيلو متر مربع.
إذاً كيف تقلص خط الهدنة إلى الوضع الحالي وكيف ضاع من غزة 200 كيلو متر مربع؟
تنص أتفاقية الهدنة بين إسرائيل وكل الدول العربية الموقعة عليها على أن خط الهدنة لا يعطي حقآ للقوات المهاجمة ولا يحرم القوات المدافعة من أي حق لها في الأرض موقع القتال. ولذلك فإن خط الهدنة ليست له قيمة قانونية، ولا يعتبر حدوداً، والعبرة في النهاية بما يتفق عليه في معاهدة نهائية تحدد فيها الحدود. أما بالنسبة لأهالي القرى الجنوبية فلم يعني هذا الأمر لهم شيئآ، فقد عاد الشباب منهم إلى ديارهم لإحضار شيخٍ أو مريض تركوه هناك أو لإطعام مواشيهم الباقية هناك أو لجني محاصيلهم، وكانت عملية العبور إلى تلك القرى سهلة، لأن عدد جنود المستعمرين كان قليلآ، ولم يكن بإمكانهم السيطرة على تلك الأراضي الشاسعة التي إحتلوها. ولذلك وضعت إسرائيل الألغام في طريق العائدين إلى ديارهم أو حول مصادر المياه أو حول الأماكن الهامة مثل المخازن وصوامع الغلال. ولم يخل الأمر من حمل بعض الشباب للسلاح، وقتلهم من إعترض طريقهم من المحتلين. ووصل بعضهم إلى الخليل وأحضر بعض أفراد أسرته إلى غزة أو أخذهم من غزة إلى الخليل.
ضج الإسرائيليون بالشكوى من هذه "التعديات"، وأثاروا الموضوع عدة مرات أمام لجنة الهدنة المشتركة، التي كان يمثل الجانب المصري فيها محمود رياض وصلاح جوهر. وفي نفس الوقت قامت إسرائيل بعمل دراسة جيولوجية بينت أن منطقة وادي الحسي غنية بالمياه الجوفية. وهذا بالطبع شئ بديهي في معظم الوديان، ولكن الدراسة أثبتت نوع وكمية المياه وبقى التقرير سرياً.
إنتهزت إسرائيل فرصة الشكاوي المقدمة منها إلى لجنة الهدنة، وطلبت تحديد خط الهدنة بعلامات واضحة لإيقاف "التعديات" التى تدعى أن الاهالى قاموا بها اثناء عودتهم إلى ديارهم، وسمتهم "بالمتسللين" إلى أرض إسرائيل.
تم الاتفاق مع ضباط الهدنة المصريين برئاسة محمود رياض على تقليص مساحة قطاع غزة، وذلك بتحريك خط الهدنة بحيث تقتص مساحة 200 كيلو متر مربع من مساحة القطاع الحالية.
لم تكن حوادث الحدود هى السبب. وكان الضغط الإسرائيلي للإستيلاء على أراضي عبسان وخزاعة والادعاء بأنه في الجانب الإسرائيلي صوريآ فقط لأن أخر نقطة إسرائيلية مسموح بها في اتفاقية الهدنة تبعد حوالي 2 كيلو متر شرقاً. ولم تكن إسرائيل على أي حال ترغب في الإستيلاء على أرض مع أهلها. ولكن الهدف الحقيقي لإسرائيل كان تقليص مساحة قطاع غزة قدر الإمكان والإستيلاء على المياه الجوفية في شمال القطاع. وعلى ذلك إقترح الإسرائيليون إنشاء خط داخلي (في قطاع غزة)، لمنع الإحتكاكات مع الأهالي، في إتفاقية عرفت بإتفاقية التعايش بتاريخ 22 فبراير1950 أي بعد سنة من إتفاقية الهدنة.
حددت هذه الإتفاقية ثلاث مناطق في قطاع غزة، ووقعت عليها إحداثيات خط التعايش هذا بدقة. إنظر الخريطة رقم1.
هذا الخط هو الخط الحالي لقطاع غزة، وهو المشار إليه في كثير من الوثائق. وقد جاء في المادة الثالثة من اتفاقية "التعايش": إن إتفاقية التعايش هذه "ذات طابع محلي بحت، وإنها لا تؤثر بأي شكل من الأشكال على إتفاقية الهدنة الرئيسة الموقعة في 24 فبراير1949. وبوجهً خاص فإن إتفاقية التعايش هذه لا تعتبر في أي بند منها تعديلآ في مواقع أي طرف كماهي مذكورة في إتفاقية الهدنة".
إن إقتطاع 200 كيلو متر مربع من قطاع صغير أصلآ، كان بمثابة قنبلة تنفجر في قطاع غزة، لو علم الناس بهذا الأمر. بسبب هذا الموقف المتفجر تم توقيع إتفاقية التعايش سراً، ليس في غزة، وإنما في العوجا، وهي منطقة منزوعة السلاح أصلاً ومساحتها 260 كيلو متر مربع. وقد تم إحتلالها بالكامل فيما بعد بقوات إسرائيلية كان يقودها شارون. وقع اتفاقية "التعايش" هذه الكولونيل محمود رياض واللفتنانت كولونيل كالمان كيت. إنظر التوقيعات على الخريطة رقم 2 التي تبين وادي الحسي في الشمال والخط المنقط في الوسط يمثل الخط الحالي، وما بينهما Zone A))، تمثل الأرض المقتطعة في الشمال. ورغم إن الإتفاقية سجلت لدى مجلس الأمن في 17 مارس 1950، إلا إنه لم يعلن عنها في غزة ولا في الصحف العربية. ذهبت لجنة الهدنة، التي تشمل ضباط الأمم المتحدة وضباط إسرائيليون ومصريون لوضع علامات الخط الجديد. خرج السكان عن بكرة أبيهم يحملون العصي يصيحون ويصرخون لإبعاد ضباط الهدنة عن أراضيهم. وقد أخبرني الحاج محمد أبو دقه مختار عبسان في أكتوبر 1995 بأنه طلع مع رجال البلاد ونسائها وإعترض طريق هؤلاء الضباط، ورفض أن يتزحزح عن أرضه. كما أخبرني شحاده إقديح في 4/9/2008 وعمره الأن 85 عاماً بوصف مماثل. قال "كنت مرافقآ للكوكبة التي حددت خط الهدنة، وكان مختار خزاعة إبراهيم محمد النجار الملقب أبو الأعور يحتج بشدة على تقسيم أرض قريته، فأشار إليه الملازم حسن صبري بالسكوت، وكان الضباط الإسرائيليون هم الذين يسيطرون على الموقف، ويحددون الإتجاهات. وفي ثاني يوم جاءوا ليأخذوا خزاعة فوقفنا لهم لمنعهم، ونتصدى لهم من كل إتجاه برجالنا ونسائنا، وإصرارنا على البقاء. ولولا معارضتنا الشديدة لما أمكن إنقاذ عبسان وخزاعة. وفي سنة 1959، جددوا التخطيط من الجنوب وجاء الخط شرقي خزاعة. وبعد أن أصبحوا شمال القرية اتجهوا نحو الشمال الغربي على السناطي وبها المثلث الباقي من المعين واستمروا شمالاً إلى أن اخذوا سروال إلى جانب إسرائيل".
وفي صورتين فريدتين عثرنا عليها في الأرشيف الإسرائيلي، يبدو المختار إبراهيم النجار يجادل الضابط الإسرائيلي ليبتعدوا عن أرضه (انظر الصورة رقم 1) وفي صورة أخرى (رقم 2) يبدو محمود رياض مع لجنة الحدود في هذا الموقف.
ولقد أمكن دفع الخط بعيداً عن أراضي عبسان وخزاعة، بسبب هياج الأهالي. أما باقى الاراضي فلم يكن هناك من يدافع عنها وقد هُجر أهلها ولم يعودوا متواجدين في تلك المنطقة.
وقد أفادت المقابلات التي أجرها الدكتور عدنان أبو عامر من الجامعة الأسلامية في غزة مع خمسة أشخاص عاصروا هذه الفترة، أن القوات المصرية لم تحافظ على بقاء خط الهدنة كما هو في إتفاقية الهدنة، وألمح بعضهم إلى تورط بعض الضباط المصريين في إنحراف خط الهدنة عن مساره الحقيقي، ورغم تواتر الشهادات فإنه ليس هناك دليل مكتوب على ذلك. وقد أجمع الشهود على حجم الفظائع الإسرائيلية، التي تعرض لها العائدون إلى ديارهم من قتل أو إعتقال.
ومن المزارعين والتجار الذين قتلوا: محمد أبو دقة، عبد العزيز المغربي، عطا أبو لبدة، أحمد أبو عنزة. ومن الذين قتلوا قرب خط الهدنة: أبو بركة قاروط، جبر خليل القرا، عوض العبد البريم، سلمان سالم البريم. ومن الذين جرحوا ثم ضربوا حتى الموت: أحمد القرا، رضوان أبو نصيرة، محمد معتوق الفجم. ومن الفدائيين الذين استشهدوا حسن ماضي أبو سته، حميدان الصوفي، محسن أبو عويلي، عبد الجواد الرقب، ثابت قديح ودياب العاوور.
وقال الشاهد عبد الرحمن إبراهيم إسماعيل أبو عامر من مواليد عام 1926: "إن نقاط القوات الدولية تبعد ثلاث كيلو مترات عن بعضها، وأن هناك تغيرات طرأت على هذا الخط. وكان مكانه أولآ براميل متفرقة، ثم حفر خندق على الخط، وأخيرآ أصبح سلكآ شائكآ مكهربآ، وهو الخط الحالي الذي يبعد ثلاث كيلو متر داخل القطاع عن خط الهدنة الحقيقي. إن هناك سلسلة من الفظائع إرتكبها الجنود الإسرائيليون خصوصآ إعدامهم للجرحى أو بوضع الألغام على الحدود في براميل المياه وهناك بعض الروايات التى شاعت بين الأهالي عن تلقي بعض الضباط الكبار رشاوي مالية لغض الطرف عن إنحراف الخط".
وقال الشاهد سليمان أحمد إبراهيم القرا مواليد 1935: " إنني أوكد أن هناك تغيرات طرأت على هذا الخط بإتجاه الداخل، وكان خط الهدنة إلى الشرق قريبآ من قريتنا (خزاعة)، وكان يضعون علامات وإشارات بالقرب من خربة أبو ستة، ثم أخذت القوات الدولية بالإتفاق مع جميع الأطراف بعد 6 شهور بإجراء تعديل ميداني على خط الهدنة، وقامت القوات الدولية بوضع نقطة عسكرية في بئر القرا. وبين الحين والأخر كان الجنود الإسرائيليون يأتون إلى المكان ويطلبون من القوات الدولية مغادرته، وحين كانوا يرفضون كان الإسرائيليون يقومون بوضع ألغام متفجرة في سياراتهم. ولقد تكرر ذلك أكثر من مرة خصوصآ مع الوحدة الكولومبية. وحين رفضوا إقتلع الإسرائيليون خيام مواقعهم ورحلوهم بالقوة".
كتب المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في كتابه "حرب الحدود" ص 187 مايلى بناءاً على ملفات إسرائيلية فتحت أخيرآ، ومن بينها إجتماع لجنة الهدنة في 6 و10 يناير 1950:
"في صيف 1949 بدأ الضباط الإسرائيليون والمصريون محادثات سرية للمفاوضة حول إمكانية تعديل الحدود، بحيث تترك عبسان في الجانب المصري، وتأخذ إسرائيل الجانب الشمالي من القطاع. وكانت حوادث أكتوبر (1949) دافعآ للإسراع في هذه الإتفاقية، وإتفق الجانبان على آلية لحل المشاكل المحلية، وتحدد خط جديد ببراميل معدنية فارغة، لكي تستبدل فيما بعد بخندق متصل. كما إتفق الضباط على القيام بعمليات دورية مشتركة مع وجود نقطتين ثابتتين للمراقبة".
وكتب موريس أن إسرائيل قتلت 30-40 عائد شهرياً معظمهم في النصف الأول من الخمسينات وأنها قتلت حوالى 5000 عائد في العقد الأول من إقامة إسرائيل.
أما حوادث أكتوبر التى أشار إليها موريس وخلفية الاوضاع في المنطقة فقد جاء وصفها في تقرير الجنرال رايلي رئيس لجنة الهدنة إلى مجلس الأمن في 1950/2/12 (المسجل برقم 1459/S بتاريخ 1950/2/20)، أى قبل اتفاقية "التعايش" بأيام، على الوجه التالي:
"إن مشكلة حراسة خط التحديد بين قطاع غزة والمنطقة التى تحتها إسرائيل في النقب مشكلة عويصة نظراً لوجود 200,000 لاجئ في القطاع. ومن البديهى أنه يصعب منع هؤلاء الذين يعيشون على الكفاف من محاولة الحصول على كلأ لمواشيهم أو حطب لوقودهم (من أراضيهم)....
وقد عالجت اللجنة عشرات الحالات والتى شملت قتلى من العرب والإسرائيليين.. وفي 7 و14 أكتوبر (1949) قصفت إسرائيل بالمدافع والرشاشات القرى العربية في بيت حانون وعبسان مما أدى إلى قتل 7 وجرح 20. وبالمقابل اشتكت إسرائيل من حوادث على الحدود أدت إلى مقتل 4 مستوطنين وجرح 20 آخرين....
وستنتهى السنة الاولى من اتفاقية الهدنة في 1950/2/23. وبسبب الشكاوى المتواصلة التى يبدو أنها غير قابلة للحل، فإنه تم العثور على حل ووافق عليه الطرفان (يقصد اتفاقية التعايش)."
وجاء في التقرير العام للجنة التوفيق الخاصة بفلسطين في الأمم المتحدة (UNCCP) للفترة من 1949/12/11 إلى 1950/10/23، فقرة 31 -32، ما معناه أن الوفد المصري قد طلب ضرورة السماح للاجئين في قطاع غزة بالعودة إلى ديارهم وفلاحة أراضيهم الواقعة إلى شمال وشرق القطاع. لكن الوفد الإسرائيلي رد بأن هذا الموضوع قد تمت تسويته إلى حد كبير في إتفاقية "التعايش"، وأن باقى الأمور ستسوى في معاهدة سلام نهائية. وهكذا توقفت المطالبة بعودة اللاجئين، حتى للمناطق التى اقتطعتها إسرائيل خلافاً لاتفاقية الهدنة.
وكان الوفد المصري قد أصر في رسالته إلى لجنة التوفيق في أكتوبر 1949 (كما جاء في تقريرها السادس المؤرخ في 1950/5/29 تحت رقم A/1255) على الآتى:
- ضرورة عودة الأهالي إلى ديارهم وفلاحة أراضيهم في شمال غزة.
- ضرورة عودة اللاجئين في قطاع غزة والمالكين لأراضي شرقى القطاع والسماح لهم بفلاحة أراضيهم.
- ضرورة عودة اللاجئين من قضاء بئر السبع العودة والاستقرار في أراضيهم بشكل مؤقت إلى أن تتم التسوية النهائية.
ورد الوفد الإسرائيلي بأن المطالب المصرية قد تحققت إلى أكبر حد ممكن في اتفاقية "التعايش" وأن الوفد المصري لم يعبر عن أي تحفظات عند توقيعه اتفاقية "التعايش". ولذلك فإن رأي إسرائيل أن كل النقاط التى طرحت قد تمت معالجتها باتفاق الطرفين.
عاد الموضوع إلى العلن عندما كتب الصحفي المطلع (عكيفة إلدار) في هاريتس في 2005/9/27 مقالاً بعنوان" كيف ضحكنا على المصريين" يقول فيه" تطوع الكولونيل عاموس هوريف، الذي كان عضوآ في لجنة الهدنة لبيان كرم إسرائيل. لقد بين المسح الجيولوجي أن الكثبان الرملية شمال قطاع غزة ترقد فوق خزانات من المياه الجوفية الطازجة، وهي ضرورية لتطوير المستوطنات الجديدة، التي أقامتها إسرائيل في النقب الشمالي. ولم يكن المصريون على علم بذلك. وكان الإسرائيليون ينتظرون الفرصة المناسبة (لتغيير الخط)". وكتب يورحام كوهين، الذي كان ملحقآ للجبهة الجنوبية في ذلك الوقت، وكان ضابط الإتصال مع المصريين في تلك المحادثات، في يوليو 1984 في مجلة الجيش الإسرائيلي أنه "عند تخطيط الحدود، كانت قرية عبسان الصغيرة في الجانب الإسرائيلي دون شك، وهذا يعني أن على أهل هذه القرية التخلي عن بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وتحويلهم إلى لاجئين لايملكون شروى نقير. وعندما رأوا قافلة سيارات الجيب التي تحمل ضباط الهدنة إجتمع حولهما النساء والأطفال وأثاروا ضجة كبيرة. ووضعت بعض الأمهات أطفالهن في سيارات الجيب بين البكاء والعويل. وقد أنقذ الجنود المصريون ضباط الهدنة، وغادرت القافلة القرية". ويقول كوهين إن محمود رياض كان محرجآ (انظر صورة يروحام كوهين مع محمود رياض صورة رقم 2) وكان الإسرائيليون ينتظرون هذه الفرصة بفارغ الصبر (لاقتطاع أرض قطاع غزة) ولأن الحكومة المصرية خشيت أن تستغل المعارضة في مصر هذه القصة لإسقاطها. قررت الموافقة (سراً) على إتفاقية محلية بإسم "التعايش". وقد تردد رئيس لجنة الهدنة التابعة للأمم المتحدة في الموافقة عليها، لإنه لم يجد في إتفاقية رودس أي بند يسمح بتبادل الأراضي. ومع ذلك وقع الطرفان على إتفاقية وأرفقوا بها الخريطة".
وجاء في وثيقة وزارة الخارجية الأمريكية رقم 46 بتاريخ 1 إبريل 1965 بعنوان "حدود إسرائيل وجمهورية مصر العربية". إنه بعد حملة السويس في عام 1956(العدوان الثلاثي) حُفر خندق ليحدد الخط المعدل حسب الإحداثيات المبينة في اتفاقيات التعايش، أنظرالخريطة رقم 1. وجاء في هذه المذكرة أيضآ "أن المنطقة الأن، تقع تحت مراقبة قوات الطوارئ بالأمم المتحدة. وأن الفقرة الثانية من المادة الخامسة في إتفاقية الهدنة الأصلية في رودس تنص على مايلي:- أن خط الهدنة يجب أن لا يعتبر بأي شكل من الأشكال حدآ سياسيآ أو جغرافيآ، وإن هذا التحديد يتم بدون الإخلال بحقوق أي طرف لهذه الإتفاقية ولا لمطالباته ولا لوضعه فيما يتعلق بتسوية نهائية لقضية فلسطين".
وبعد العدوان الثلاثي إعتبرت إسرائيل أن الخط المؤقت هو الخط النهائي، وأنشأت فيه عدة مستعمرات منها: في الشمال موشاف ناتيف ها أسارة وكيبوتس ايرتز وقاعدة عسكرية في وادي الحسي، وكيبوتس زكيم الذى تفنن في وضع الالغام للعائدين، وفي الشرق مستعمرة كيسوفيم المشهورة بالإعتداءات على غزة، ونيريم وعين هاشلوشة وأيضآ كرم أبو سالم الذي يستعمل معبرآ من مصر إلى غزة عن طريق إسرائيل.
وقد أعلنت إسرائيل في 2005/9/21 حسب وكالة رويترز أن إسرائيل تعتبر خط الهدنة (المؤقت) هو خط دولي مع إسرائيل وهذا بالطبع نوع من الخداع، لأن الغرض منه إعلان حصار القطاع كمنطقة معادية، رغم إنها تسيطر على القطاع أرضآ وجوآ وبحرآ. ولم تكتف إسرائيل بقضم قطاع غزة باختراع حد جديد في اتفاقية التعايش، بل إنها تعدت على الخط الحالى نفسه، بأن توغلت في موقع احداثياته (96.797 – 94.354) شرق أبو مدين بطول 1,600 متر وعمق أقصاه 290 متر، وفي موقع احداثياته (93.255 – 91.234) شرق النصيرات بطول 522 متر وعمق أقصاه 122 متر، وفي موقع احداثياته من (92.710 – 90.676) إلى (91.100 – 88.807) بطول 2,500 متر وعمق أقصاه 112 متر، بما مجموعه 408,400 متر مربع. بل إنها أيضآ اقتطعت مساحة 8.7 كيلو متر مربع شمال بيت لاهيا لأغراض عسكرية. وكذلك منعت إسرائيل الأهالي من الزراعة والإقتراب من شريط حدودي بطول القطاع بمساحة 25.82 كيلو متر مربع، بعرض نصف كيلو متر وأحيانآ تمتد المساحة المحظورة إلى 51.06 كيلو متر مربع عندما يزداد عرض هذا الشريط المحظور إلى كيلو متر.
وتلخيصاً للوضع، فأن إسرائيل اقتطعت مساحة 193 كيلو متر مربع من قطاع غزة بزحزحة خط الهدنة خلافاً لاتفاقية الهدنة الرئيسة، واقتطعت مساحة 34.5 كيلو متر مربع تزيد أحياناً إلى 60 كيلو متر مربع كمناطق محظور على أهالى المنطقة الاقتراب منها. وتعدت على خط الهدنة الحالي نفسه بالتوغل في القطاع بمساحة 408 دونمات.
وقد طلعت علينا في السنوات الاخيرة تقارير عن مفاوضات محمود عباس وأحمد قريع مع ايهود المرت وتسيبى لفنى إقترحت فيها إسرائيل تبادل الأراضي. وذُكر فيها أن إسرائيل ستتمسك بضم الأراضي التي إستولت عليها في الضفة الغربية، مقابل توسيع قطاع غزة قليلآ، وتوسيع الضفة الغربية في مناطق قاحلة غير مأهولة في منطقة الخليل. وهذه الصفاقة الإسرائيلية تتمثل في سرقة أرض لا تملكها، ثم تقايض على رد جزء منها مقابل إعتراف المالك الأصلي بأحقية السارق في سرقته.
وقد جاء هذا الإقتراح مفصلآ في ورقة بحث كتبها الميجور جنرال المتقاعد جيورا أيلند (Giora Eiland) في النشرة رقم 88 Policy Focus)) الصادرة في سبتمبر 2008 من مركز الدراسات الامريكي المشهور ذي الطابع الصهيوني Washington Institute For Near East Policy.
جيورا أيلند شخص مهم جدآ، فقد كان الرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني الإسرائيلي. وخدم في الجيش الإسرائيلي لمدة 33 سنة كرئيس لجهاز التخطيط. وهو الأن عضو بارز في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب.
يفصّل أيلند إقتراحه حول تبادل الأراضي والحدود واللاجئين والمستوطنات في هذا البحث. وعندما يأتي إلى قطاع غزة نجد الكرم الإسرائيلي في أقصى حالاته، إذ إنه يقترح توسيع قطاع غزة بإعادة أقل من ثلث الأراضي المسروقة من خط الهدنة المبينة في خريطة رقم 1، بحيث تبقى كل المستعمرات الإسرائيلية في مكانها ووجوب اعتراف الفلسطينيين بشرعية إحتلالهم للأراضي الأخرى كلها.
وإذا كان هذا هو شأن إسرائيل المعتاد فما هو دور المفاوضين الفلسطينيين في ذلك، وماهي حدود معلوماتهم عن الأوضاع الحقيقية للأرض الفلسطينية، وماهو التفويض الذي أعطاه لهم الشعب الفلسطيني في قبول التنازل عن الأراضي الفلسطينية، في غياب مجلس وطني منتخب يمثل كافة الشعب الفلسطيني من مواطنين ولاجئين يناضلون من أجل الدفاع عن وطنهم منذ سته عقود.