التاريخ ملئ بالحروب والجرائم والكوارث، وهو أيضاً ملئ بالأخبار المشجعة عن صمود الروح الانسانية التى تتحدى العبودية والقهر وتتوق إلى الحرية والكرامة.
ولا يوجد في التاريخ الحديث، أو حتى المسجل القديم، مثل آخر على تلك الحرب التى شنها الاستعمار الغربى بصوره المختلفة على شعب أعزل لم يعتد على أحد، ولم يحتل أرض أحد، في أطول حرب ضد شعب، مثلما حدث في فلسطين.
هذا العام نشهد الذكرى التسعين لأول خطة لتدمير فلسطين والذكرى الستين لتنفيذ هذا التدمير على أوسع نطاق، والذكرى الأربعين لأطول احتلال في التاريخ على الخمُس الباقى من فلسطين.
كل هذه علامات مميزة ليس لها نظير، وصفاتها من حيث أنها: "أكبر وأفظع وأرهب"، تصلح لإدراجها في موسوعة جينيس للحوادث الخارقة.
في جانب واحد من هذه المعركة الطويلة نجد الاستعمار الأوربي في أعتى صوره في مطلع القرن العشرين، ممثلاً في بريطانيا، وفي منتصفه، ممثلا في أمريكا، وما بينهما نجد حركة أوربية عنصرية استيطانية، نشأت على ثقافة الاستعمار، وانتعشت على نار الحرب العالمية الثانية، وهى الحركة التى بدءتها أورباً جزءاً، وصنعتها كلاً، وأمدها الغرب خلال تسعين عاماً بوقود المال والسلاح والسياسة والفكر والثقافة.
وفي الجانب الاخر من المعركة، هناك أبو محمد وأم محمد وأولادهم، وآلاف مؤلفة مثلهم، عاشوا على أرضهم قروناً، زرعوها بالقمح والبرتقال وعاشوا من خيرها، ولم يدر في حسبان أى منهم أن هناك من يخطط لابادتهم وانتزاعهم من أوطانهم. ولما جاءت العاصفة واقتلعتهم من جذورهم تمسكوا بكل غصن والتصقوا بكل حجر، قتل منهم وجرح وتشرد الكثير، ورأوا من الوان العذاب ما لم يخطر ببال بشر، لكنهم لا زالوا إلى اليوم جاثمين على ما تبقى من أرضهم وحولها، بل جاثمين على صدر عدوهم بكل معانى التحدى والصمود.
ولدت الصهيونية في رحم أوربا الاستعمارية، وانفصلت عنها كما ينفصل الوليد عن أمه، ولكن الحبل السرى بقى متصلاً، ولا يزال يقوى وينتفخ كل يوم.
ليس هناك سر في أهداف الصهيونية، فقد نشرت أهدافها ودعت إليها في كل الأماكن والعصور. وهى، إن أخفت بعض خططها التفصيلية، فهى لم تخف قط منذ أكثر من قرن ما الذى تريد تحقيقه. وإن اختلط الأمر على بعضِ منا، فهو الملام، لأنه لم يقرأ أو لم يفهم.
الصهيونية تريد صياغة تاريخ وجغرافيا جديدة لفلسطين وما حولها. التاريخ يبدأ عندها منذ بداية القرن المسيحى أو قبله بقليل، عندما اختلطت بعض القبائل العابرة (أو العبرانية) بأهل فلسطين وذابت بينهم وهاجر بعضها إلى بابل وهناك صنع شعراؤها تاريخاً وجغرافية جديدة مفترضة.
وفي هذا التاريخ الطويل لا يوجد إلا حكم رومانى أضطهد اليهود تبعه حكم بيزنطى لفلسطين ثم فراغ كبير في الأرض والناس تخللته حملة صليبية لتطهير الأرض المقدسة. وبعد ألفى سنة عادت تلك القبائل المجهولة الأصل والمكان إلى فلسطين لتقيم عليها دولة اسرائيل الحديثة.
في هذا التاريخ المفترض لا توجد فلسطين ولا فلسطينيون ولا عرب ولا مسلمون ولا أهل هذه الديار. وإن وجد شىء من هذا، فهم غزاة، أو طارئون أو رُحّل، تنظف منهم البلاد كما ينظف المنزل أو تسوى الأرض لشق طريق أو زرع بستان.
ومن هنا فإن عملية التنظيف أو "التطهير العرقى" متجذرة في الفكر الصهيونى، لا تعيش بدونه.
وهذه العملية لها ثلاثة أذرع:
- اقتلاع أهل هذه الأرض من ديارهم.
- الاستيلاء على الأرض وما عليها وما بها من ممتلكات وثروات.
- مسح تاريخهم بإزالة كل ذكر لهم في كتبهم ودراساتهم ومسح جغرافيتهم بالفعل بتدمير قراهم وآثارهم الدينية والحضارية.
وكما يتملك الصهيونى الذعر الشديد من احتمال أن يعود فلسطيني واحد إلى بيته، يتملكه الذعر أيضاً إذا رأى حائطاً باقياً من ركام مسجد أو شاهداً من شواهد قبور الذين عاشوا على تلك الأرض.
وليس من العجيب إذاً أن يقوم الصندوق القومى اليهودي – رمز العنصرية الصيونية المنتشر في 55 بلداً بإذن رسمى كمؤسسة خيرية – بزرع الأحراش والمتنزهات على مواقع القرى المدمرة حتى يخفى معالم الجريمة.
كيف يمكن أن تخفى الجريمة وهى ليست حدثاً منفرداً، بل هى تتكرر كل يوم؟ لعل استمرار الجريمة لمدة 21,915 يوماً منذ 1948/5/15 إلى اليوم، دون أن تتوقف، ودون أن تهب شعوب وحكومات وأفراد لنجدة هذا الشعب الجريح، لهو أكبر أدانة يومية، تتكرر وتتأكد كل صباح، لكل من يرى ويسمع ولا يهب للنجدة.
لا يفيدنا كثيراً أن نسرد التاريخ، فهو إما معلوم للعاجزين الذين أصابهم شلل الحراك وشلل الهمة، وإما مجهول للاهين في شئونهم وحياتهم لا يريدون عبئاً جديداً عليهم. لكن الطامة أن يكون التاريخ مجهولاً لأهل الحل والعقد، أو للجيل الجديد المتعطش للمعرفة والذى تعقد عليه آمال المستقبل. من أجل هؤلاء نسترجع المحطات الكبيرة في أطول حرب ضد شعب.
في 1917/10/31 نجح اللنبى في احتلال بئر السبع بوابة فلسطين الجنوبية بعد محاولتين فاشلتين للجيش البريطانى في احتلال غزة فأرسل برقية إلى لندن: "أخذنا بئر السبع. ستكون القدس هدية لكم في عيد الميلاد". وصلت البرقية في 1 نوفمبر. فأخرج جيمس بلفور وزير الخارجية ورقة من درج مكتبه، كان قد اتفق على صياغتها مع الصهاينة قبل بضعة شهور، وأصدر "إعلان بلفور" في 2/11/1917، وفيه يمنح من لا يملك إلى من لا يستحق ملكاً صاحبه لا يدرىو لا يعلم. كانت هذه بداية حرب على شعب أعزل بدأت منذ 90 عاماً ولا تزال مستمرة إلى اليوم.
واستعد الصهاينة لاستلام منهوبات الحرب. فانشأوا "المفوضية الصهيونية" برئاسة حاييم وايزمان، وكان مستشارها هربرت صمويل، الذى أصبح فيما بعد أول مندوب سام لفلسطين، بريطاني الجنسية، صهيوني الانتماء.
في عهد ولايته بين عام 1920 – 1925، أقام صمويل الهيكل الأساسى لدولة اسرائيل. فقد جعل اللغة العبرية لغة رسمية لفلسطين ورخص لليهود بنظام تعليم مستقل، ونظام بنكي خاص، ومدارس منفصلة، وانشأوا بإذن منه نواة وزارة الطاقة (مشروع روتنبرج)، ووزارة المياه (ميكوروت)، ووزارة العمل (هستادروت)، وسن عشرات القوانين التى تسهل استيلاء اليهود على الأرض الفلسطينية باعتبارها أراضى دولة، وسمح بالهجرة اليهودية التى لم يحدها إلا رغبة اليهود في الهجرة إلى فلسطين. لكن اهم الإنجازات هى اعتراف حكومة الانتداب بحكومة منفصلة لليهود المهاجرين إلى البلاد تحت اسم "الوكالة اليهودية"، ورفضت بريطانيا في نفس الوقت تكوين مجلس تشريعى أو برلمان عن طريق الانتخاب لكافة السكان، بمن فيهم المهاجرون اليهود، لان ذلك يعطى الصوت الأعلى للأغلبية العربية. هذه هى الديموقراطية التى رفضتها بريطانيا. لكن أخطر التعديات البريطانية على الحقوق الفلسطينية هى انشاء جيش يهودى، تدربه وتسلحه بريطانيا، تحت اسم مضلل هو "حراس المستوطنات". وقد أصبح إسمه "الهاجاناه"، فيما بعد ثم أصبح "الجيش الإسرائيلي".
ولعل من علامات صلافة الاعتداء على حقوق الشعب الفلسطيني أن صمويل وإدارته المدنية لم تكن لديها صلاحية إصدار القوانين أو التصرف في حكم فلسطين قبل عام 1924 عندما وقعت تركيا معاهدة السلام، وسلمت سيادة فلسطين إلى حكومة الانتداب، أى قبل سنة واحدة من انتهاء ولاية صمويل. وعليه فإن كل القوانين التى أصدرها صمويل غير شرعية. ومن الغريب حقاً أن الحكومة البريطانية نفسها في لندن احتجت على تصرف صمويل في لهفته على إصدار القوانين المعيبة من ناحية قانونية، وكيف لا يكون الأمر كذلك عندما يكون السكرتير القانوني (النائب العام) لحكومة الانتداب نورمان بنتوتيش، هو أيضاً صهيوني متعصب، وقد اضطرت الحكومة إلى طرده في نهاية الأمر ولكن بعد أن بلغ الضرر مداه.
هكذا إذن كان دور بريطانيا التى أوكلت إليها عصبة الأمم "أمانة الحضارة المقدسة" لتأخذ بيد فلسطين وأهلها إلى الاستقلال في بلادهم والحرية على أرضهم.
وفي ظل السياسة البريطانية تدفق المهاجرون اليهود إلى فلسطين، حتى وصل عددهم في نهاية الثلاثينات إلى 30% من مجموع السكان. فثار الفلسطينيون ثورة استمرت ثلاث سنوات (1936 – 1939). وقامت بريطانيا بقمع الثورة بكل وحشية وقتلت المئات، وطبقت العقاب الجماعى على القرى بأكملها واعتقلت الآلاف من الاهالى ودمرت محاصيلهم ومؤنهم وحكمت بالاعدام على كل من يحمل مسدساً، وحلّت الاحزاب السياسية وطردت الزعماء. وهكذا بدأت نكبة فلسطين البريطانية عام 1939.
هذا كله والصهاينة يزيدون قوتهم وتنظيمهم، راضون تمام الرضاعن قيام بريطانيا بتدمير المجتمع الفلسطيني. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد للصهاينة حاجة إلى بريطانيا، فقاموا بحملة إرهابية ضدهم، وعلقوا جنودهم على الاشجار واختطفوا القضاة الذين حكموا على الارهابيين الصهاينة ونسفوا عدداً من المقرات البريطانية. فسلّمت بريطانيا فلسطين "أمانة الحضارة المقدسة" مشوهة محطمة مسروقة إلى الأمم المتحدة.
وهنا تدخلت أمريكا التى وقعت تحت سيطرة النفوذ الصهيونى. ووافقت الأمم المتحدة بعد ضغط وتهديدات لبعض الوفود على مشروع لتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية. وهو أمر لا يقل ظلماً وإجحافاً عن إعلان بلفور المشئوم.
أولاً: ليس من حق الأمم المتحدة توزيع اراضى أى بلد. ورغم أن الأمم المتحدة تعترف أن ليس لها هذا الحق، إلا أنها رفضت تحويل القضية إلى محكمة العدل الدولية لبيان قانونية مشروع التقسيم.
ثانياً: رغم تواطؤ بريطانيا الكامل لم يتمكن الصهاينة من الاستيلاء على أكثر من 5.5% من أرض فلسطين خلال الانتداب، فكيف يخصص لهم مشروع التقسيم 54% أى 11 ضعفاً؟
ثالثاً: هذا المشروع هو مجرد توصية، ولا قيمة له إلا إذا وافقت عليه جميع الاطراف. وبالطبع لم يوافق الفلسطينيون على التخلى عن نصف وطنهم. وفي حالة البوسنة مثلاً، عرضت عدة مشاريع للتقسيم ولم يستقر الأمر إلا بعد موافقة الجميع.
رابعاً: جاء في مشروع التقسيم عدة بنود تكفل بشكل قاطع الحقوق المدنية والسياسية وغيرها لليهود في الدولة العربية وبالعكس. فتعبير "الدولة اليهودية" أو العبرية كان المقصود به السيادة القانونية على تلك الرقعة الجغرافية وليس طرد السكان أو تبادلهم أو الاستيلاء على ممتلكاتهم وأراضيهم.
لكن مشروع التقسيم كان مجرد غطاء قانوني لاسرائيل لتنفيذ مخططها في تدمير فلسطين وإقامة إسرائيل على ركامها.
وفي مطلع ابريل 1948، قبل خروج الانتداب البريطاني من فلسطين خروجاً مهيناً لم يوف فيه بالتزاماته أمام شعب فلسطين، وخلافاً لأسلوب خروجه الرسمى عند إنتهاء انتدابه أو انتهاء احتلاله لمستعمرات سابقة في منتصف القرن الماضى، انقضت القوات الصهيونية على فلسطين لاحتلالها بموجب الخطة دالت. وهذه الخطة كانت تقضى بطرد السكان وتدمير القرى وحرقها والسيطرة على المناطق الاستراتيجية، وعدم التوقف عند حدود مشروع التقسيم، بل إن الطيران الإسرائيلى، الذى تم تفعيله في صيف 1948، قصف العواصم العربية المجاورة.
عند بداية خطة دالت، كان عديد القوات الصهيونية قد وصل إلى 60 ألفاً من الجنود المدربّين يقودهم ضباط تخرجوا من الحرب العالمية الثانية. وفي نهاية حرب 1948، وصل عديدها إلى 120 ألف جندى مدرب، أى بنسبة 20% من المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين. وهذه النسبة مرتفعة بشكل لا نظير له، إذ أن عدد القوات المسلحة في أى بلد، حتى لو كان من القوى العظمى، لا يتجاوز 1.5% من عدد السكان. والمقولة التى يتداولها الناس صحيحة وهى أن اسرائيل جيش له شعب وليس شعباً له جيش.
وبالمقابل كانت كل قرية فلسطينية تجمع 20 -30 متطوعاً من شبابها ومعهم بنادق عثمانية قديمة، وليس لديهم سلاح فعال ولا دبابات ولا لاسلكى ولا قيادة موحدة ومجموعهم لا يتجاوز 3000 لو كانوا في جيش واحد.
وحضرت إلى فلسطين قوات من المتطوعين العرب، وقوات نظامية من الأردن والعراق وسوريا ولبنان وعدد كل منها لا يتجاوز بضعة آلاف. أما القوات المصرية وهى أكبرها فبدأت بثمانية آلاف ووصلت إلى ثلاثين ألفاً. ولم يكن بين هذه القوات أى تنسيق، بل إن بعضها استغل عثرات الاخر.
كانت هذه حالة مأساوية بكل المقاييس. أصحاب الحق التاريخي الواضح ومن وراءهم ملايين العرب والمسلمين لم يتمكنوا من المحافظة عليه. وأصحاب المؤامرة الاستعمارية الاستيطانية تمكنوا من الاستيلاء على هذا الحق التاريخى في واقعة ليس لها مثيل في التاريخ.
كانت هذه هى عملية التطهير العرقى، التى أزالت أهل البلاد من ديارهم، ليحل محلهم مهاجرون أجانب.
لقد كانت هذه عملية منظمة، حسب خطة طويلة المدى شاركت فيها كل القوى الاستعمارية، وهى عملية استمرت 60 سنة حتى الآن ولم تتوقف، وهى عملية مخالفة لكل قانون دولى وقد شجبها المجتمع الدولى على مدى عقود عديدة، وهى أيضاً عملية فريدة من حيث أن هذا المجتمع الدولى لم يحرك ساكناً لإزالتها ومعاقبة المسئولين عنها، عكس الحال في الكثير من حالات التعدى والاحتلال.
هذه هى "النكبة"، التى أصبحت المبكاة، والمحّرض، والوازع لكل مرحلة من مراحل التاريخ الفلسطينى.
حصيلة هذه النكبة عام 1948 أن أهل 660 مدينة وقرية طردوا من ديارهم، وهم يمثلون 85% من أهالى أرض فلسطين التى أصبح إسمها إسرائيل ومساحتها تساوى 78% من فلسطين الأصلية. وبلغ عدد اللاجئين من هذه الديار اليوم حوالى 7 ملايين لاجئ منتشرون فيما تبقى من فلسطين والبلاد العربية المجاورة، والقليل فى بلاد أبعد.
ليس من العجيب إذن أنه ما من حدث هام فى منطقة المشرق العربي منذ عام 1948 إلى اليوم، وإلا وكان لنكبة فلسطين دور فيه. زالت عروش وتغيّرت انظمة واغتيل زعماء ونشبت حروب خمسة كبيرة ومئات من الحروب الصغيرة، ولكل منها خيط يؤدى إلى فلسطين. وسيبقى الوضع كذلك في المستقبل.
لماذا؟ لان احتلال فلسطين واقتلاع أهلها حدث يتحدى مسيرة التاريخ، وقد تم ولا يزال قائماً دون سبب من أسباب الديمومة التى تكفل بقاء الشعوب وإزدهارها والقبول بها، بل هو مستند على قاعدة واحدة فقط هى القوة العسكرية المهيمنة. يهذه القوة استطاعت اسرائيل أن تتحدى الدول العربية وتدجنها وتسعى الآن إلى توسيع دائرة سيطرتها إلى إيران ثم باكستان وقد تتجه غرباً بعد ذلك لتخضع الدول الاوربية التى تنتخب حكومات لا تعترف بها كما حدث في النمسا.
وبالمقابل يبقى الشعب الفلسطينى مجروحاً منفياً معانياً ولكنه صامد حتى الآن. عدده وصل إلى 11 مليون لكن 88% منهم لا يزالون في فلسطين وحولها في شريط ضيق. نصفه داخل فلسطين التاريخية والباقى خارجها.
ورغم تدفق مهاجرين يهود على أرضه وزيادتهم الطبيعية خلال 60 سنة، فإن عدد الفلسطينيين اليوم في مناطقهم الثلاثة (الضفة وغزة وفلسطين 1948) يقترب من المساواة بعدد اليهود.
ولو أخذنا في الاعتبار عدد المهاجرين الروس غير اليهود (حوالى 60% من عدد الروس الذى يقارب المليون) وكذلك عدد العمال والمقيمين الأجانب غير اليهود (حوالى 350,000)، فإن نسبة اليهود إلى كل سكان فلسطين التاريخية أقل من النصف.
هذا الأمر يرعبهم، ويسمونه القنبلة الديموغرافية. وهو تعبير عنصرى كريه، مفاده أن لو تجاوز عدد أهل هذه الأرض نسبة معينة تخيفهم، فإن للمهاجرين الأجانب الحق في إبادة هذه الزيادة، أو ترحيل كافة الفلسطينيين إلى منافى عديدة.
هذا مبدأ عنصرى واضح لم يلق الشجب من الرؤساء الغربيين الذين يذكروننا كل يوم بفضائل الديموقراطية. ومن هذا ينبثق مبدأ عنصرى آخر، هو أن إسرائيل "دولة يهودية".
ما معنى هذا التعبير؟
معناه أن فلسطين أرض يهودية، ملك يهود العالم، ولو لم يسكنوا فيها، وأنها حرام على العرب والمسلمين، وبالأخص الفلسطينيين، فالموجودون على أرضها اليوم يحل لاسرائيل طردهم متى شاءت، والمطرودون منها عام 1948 لا تحق لهم العودة والعيش في ديارهم مرة أخرى.
ولو تركنا الحق العربي جانباً، نجد أن القانون الدولى نفسه لا يمكن أن يوافق على إنشاء دولة عنصرية دينية، ولذلك فإن مشروع التقسيم الذى اعتمدته اسرائيل في شرعية إعلان "استقلالها"، لم يشترع لدولة يهودية، بل دولة سكانها عرب ويهود، ولكل منهم حقوقه السياسية والثقافية والدينية مكفولة بالكامل.
واليوم بعد 90 عاماً من إعلان بلفور و60 عاماً من احتلال معظم فلسطينو 40 عاماً من احتلال باقيها، لم تستطع الصهيونية أن تقضى على كافة الشعب الفلسطيني، وإن أبقته محتلاً، مثلوم الجراح، يعانى من اضطهاد العدو وإهمال الصديق.
وهو اليوم وحيد في هذا الميدان. لقد تخلت معظم الانظمة العربية عن واجبها القومى نحو فلسطين، وتحصنت وراء الالتزام بالمعاهدات مع العدو الذى لم يلتزم قط بمعاهدة أو قرار أممى عندما لا يوافق ذلك مصالحه.
ولم يقف مع الشعب الفلسطيني إلا الأحرار في الأمم العربية والإسلامية والعالم. فهم الذين يرفعون اليوم راية المطالبة بالعدل ويدعون إلى مقاطعة اسرائيل. ورغم أن الشعب الفلسطيني ومؤيدوه لا يملكون سلاحاً تقليدياً أو نووياً، فإنه سينتصر لا محالة، لان الشعوب لا تموت وروحها لا تقهر. أما زعماؤها بخيرهم وشرهم فهم زائلون، وفي نهاية المطاف، لن يتخلى أى فلسطينى، مثله مثل أى انسان عادى في العالم، عن بيته وأرضه ودياره وإرثه وحقه التاريخى والطبيعى. فأى شىء من مطالب الدنيا ومغرياتها يحفز الانسان إلى أن يفدى روحه ويسخر طاقته ويشحن عزيمته أكثر من هذا الهدف الأساس؟