يجول الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الدول العربية ودول المجموعة الرباعية وألقى خطاباً في الأمم المتحدة لحث المجتمع الدولي على حل القضية الفلسطينية و"انهاء الصراع العربي الاسرائيلي"، و"انهاء الصراع" هو الغاية المنشودة لإسرائيلو أمريكا بشرط أن يكون الحل النهائي مطابقا لاملاءاتها. ولكن أي تفويض يحمله الرئيس الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية من الشعب الفلسطيني لاتخاذ قرارات مصيرية مثل تلك المتداولة في أروقة بعض الدول الغربية والعربية؟
إن أهم إنجاز للشعب الفلسطيني خلال الأربعين سنة الماضية هو إنشاء المجلس الوطني الفلسطيني، الذي انبثقت عنه اللجنة التنفيذية للمنظمة. وقد أكد هذا المجلس بمجرد وجوده وحدة الشعب الفلسطيني رغم الشتات في عدة دول، وحمل هذا المجلس عبء الدفاع عن الحقوق الفلسطينية الثابتة، غير القابلة للتصرف، التي اكدتها الامم المتحدة بشكل قاطعو صريح منذ عام 1974،و أيد المجتمع الدولي هذا الحق الفلسطيني عن طريق إعتراف 110 دول بفلسطينو فتح سفارات أو مكاتب لها في تلك البلدان. وعلى ذلك فان المجلس الوطني الفلسطيني هو صاحب السيادة المطلقة على مصير الشعب الفلسطيني، وليس لأحد أن يتجاوزه.
لقدُ عُقد المجلس الوطني بطريقة شرعية لآخر مرة عام 1988 في الجزائر. أما عقده في غزة مرة أو مرتين لإرضاء كلينتون وإسرائيل ومن أجل إلغاء الميثاق الوطني، فإن شرعيته يشوبها الشك، لأن عدد اعضائه زيد الى 700 بطريقة عشوائية، ولا يوجد مسوغ قانوني على سلامة هذا الاجتماع، ولا اعتراف شعبي بتمثيله.
على أن أكبر ضرر أحاق بالمجلس الوطني عندما هُمشت المنظمة واستبدلت بالسلطة الفلسطينية ومجلسها التشريعي )الأول(، وأغلقت معظم مكاتبها، بل وبلغت الجرأة ببعضهم أن وضع في مسودة الدستور الفلسطيني مواداً تستبدل المجلس الوطني بمجلس "استشاري" من كافة الفلسطينيين ومعهم المتعاطفون مع القضية الفلسطينية من الأجانبو بينهم اسرائيليون.
وبعد سقوط كارثة أوسلو وأخواتها، لا يزال البعض ممن عاصروهاو هندسوها يتعلق بالأوهام، ويستجدي شيئا من الحقوق من مغتصبيهاو يأملون خيرا في مدريد 2، وربما 3 أو 4. ويلجأون إلى الأمم المتحدة لتقديم تنازلاتو تسويات دون تفويض شرعي من الشعب الفلسطيني، ولا علمه.
وكان هدف هؤلاء هو أن تقتصر فلسطين التاريخية على الضفةو غزة، أو ما تسمح إسرائيل بالجزء منهما الذي تعتبره تحت الحكم الفلسطيني الذاتي، وتكون السلطة هي حكومته والمجلس التشريعي هو برلمانه، بل خرج بعض دعاة الواقعيه الى الاكتفاء بجمهورية رام الله، بالتعاون مع الاحتلال الاسرائيلي، أو ما هو في الواقع "رابطة قرى" جديدة مغلفة بقبول أمريكا والإتحاد الأوروبي، مع إهمال صوت غالبية الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة.
لكن النصر الانتخابي لحماس في يناير 2006 قلب هذه الخطة رأسا على عقب. فقد عادت فتح، الحزب الحاكم حينذاك، الى التشبث بالمنظمة، واعتبارها القيادة الشرعية للفلسطينيين. وهذا حق من حيث المبدأ، فإن منظمة التحرير ولجنتها التنفيذية الخارجة من رحم المجلس الوطني هي قيادة الشعب الفلسطيني.
ولكي يكون ذلك تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب الفلسطيني، فلابد من انتخاب مجلس وطني جديد إنتخاباً مباشراً يمثل كافة الفلسطينيين في العالم. أما السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة فهي تمثل 30% من الفلسطينيين، وهي بديل لما كان يسمى "دائرة شئون الوطن المحتل" في المنظمة. ونظرا لأن هناك قرارات مصيرية تؤخذ وستؤخذ بإسم الشعب الفلسطيني، فلابد أن يكون الشعب الفلسطيني كله ممثلا بمجلس وطنى جديد هو الوحيد صاحب السيادة والقرار النهائي في مصيره. ولذلك دعا "مؤتمر حق العودة العالمي" منذ عدة سنوات القيادة الفلسطينية ورئيس المجلس الوطني الى ضرورة عقد انتخابات جديدة باسرع وقت ممكن.
وفي مارس عام 2005 إتفقت الفصائل القديمةو الجديدة في القاهرة على عقد هذه الانتخابات، لكن كان هناك تسويف ومماطلة فى عقدها دون سبب منطقي.
وأصبح الخلاف بين فتح القديمة وحماس الجديدة هو الشغل الشاغل للقيادتين. وحاول الرئيس محمود عباس الحصول على شرعية جديدة مؤقتة عن طريق اقتراح استفتاء على القضايا الوطنية. ومن حسن الحظ أنه لم يتم، لأنه يفتقر إلى أبسط القواعد القانونية، فالاستفتاء لا يكون على الحقوق الثابتة ولا يقتصر على ثلث الفلسطينيين، ولا يصاغ إلا بعد استشارة قانونية وشعبية واسعة.
إستبدل الاستفتاء بوثيقة الوفاق الوطني، التي ما أن تم التوافق عليها، حتى أهملت ولم يتم تطبيقها. وكان البحث دائماً عن نوع من "الشرعية" يوافق خططاً للتسوية متفق عليها خارج إجماع الشعب الفلسطيني.
ثم جاءت الرباعية بشروط ثلاثة تلبية لمطالب إسرائيل تفرضها على حكومة السلطة المنتخبة لكي تستمر في تقديم المساعدات للفلسطينيين. ولم يحدث في التاريخ الحديث أن دولاً تعتبر نفسها ديمقراطية تمارس عملية تجويع شعب لإرغامه على قبول شروط استسلامية. وحسب مبادئ نورمبرج التى هى أساس ميثاق روما ومحكمة الجنايات الدولية فإن تجويع شعب هو جريمة حرب.
والانكى من ذلك أن المساعدات التي يدفعها الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين ليست منٌة، بل هي تمويل للاحتلال الإسرائيلي لإعفائه من مئونة تقديم الخدمات للشعب المحتل حسب اتفاقية جنيف الرابعة، ولو زال الاحتلال لما احتاج الفلسطينيون إلى معونة من أحد فهم شعب نشيط وبلادهم بها خير كثير.
ثم يصر الاتحاد الأوروبي تلبية لمطالب إسرائيل وأمريكا على اعتراف حكومة السلطة باسرائيل، والسلطة حكومة محلية لا تكاد تعمل تحت وطأة الاحتلال. ويريد الاتحاد الأوربى حماية اسرائيل النووية من افتراض تدمير حكومة السلطة لها فى المستقبل غير المنظور. وتبلغ المهانة بالعرب ألا يطالبوا الإتحاد الأوروبي بإرغام إسرائيل على التكفير عن التدمير الفعلي والمستمر لفلسطين لمدة 58 عاماً، وإرجاع الحق إلى أهله.
ولو كان لدى الفلسطينيين مجلس وطني منتخب صادق التمثيل لكان هو العنوان الصحيح الذي يجيب على هذه المطالب ويرد عليها الرد الصحيح، ولما أمكن للضغوط الخارجية أن تصل إلى هذه الدرجة من الوقاحة.
وعندما وافقت الدول العربية في 2002/3/28 في بيروت على إعلان "المبادرة العربية"، لم يجد شارون رداً عليها إلا بإعادة إحتلال الضفة الغربية. ورغم حسن النية في هذه المبادرة إلا أنه لم يحالفها الحظ في أهم ركن من أركان قضية فلسطين وهو "حق العودة للاجئين" الذين يمثلون هم والنازحون عام 1967 ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني.
فقد جاء فى نص قرار القمة العربية فيما يختص بحق العودة:
"والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدةرقم 194"
لم يذكر "حق العودة" صراحة فى القرار وإنما أستعملت كلمة "حل عادل". ولايجوز إستعمال كلمة "حل عادل", لأن المطلوب ليس حلاً بل تنفيذ لحق العودة كما هو مبين صراحة فى قرار 194 وفى الميثاق العالمى لحقوق الأنسان وفى جميع المواثيق الأقليمية لحقوق الأنسان واحتراما لحرمة الملكية الخاصة التى تبقى سائدة مهما طالت سنوات الأحتلال أو تغير السيادة.
كما أن تعريف كلمة "العدل" قد سبق شرحها بالتفصيل فى المواثيق السالفة الذكر، وهذا لا يحتاج إلى مفاوضات ومشاورات للأتفاق على تعريف "الحل العادل". وقد أدخلت كلمة "الحل العادل" أصلا بدلا من حق العودة فى قرار 242 للتسلل من خلالها إلى تقويض حق العودة بالدخول فى مناظرات قانونية ومفاوضات لا تنتهى حول التعريفات والمسميات.
على أن أخطر نص فى القرار هو كلمة "كما يتفق عليه"، والمقصود بالطبع كما يتفق عليه مع إسرائيل. وإسرائيل قد أعلنت عام 1984 رفضها القاطع لحق العودة ونفذت ذلك بطرد اللاجئين والأستيلاء على أملاكهم منذ ذلك التاريخ. ولذلك فكلمة "كما يتفق عليه" هى قنبلة موقوتة ستنفجر عند المفاوضات، ويصبح هذا القرار عندئذ دون معنى أو قيمة. وإلى أن نصل إلى هذه المرحلة، يظل الشعب الفلسطينى فى حاله وهم شديد أن حقوقة محفوظة فى قرار الأمة العربية وهذا غير صحيح.
ولو كان للشعب الفلسطينى مجلس وطنى منتخب، لأصبح هو صاحب الكلمة فى هذه المبادرة فيما يخص فلسطين، ولما تمكنت الضغوط الأجنبية المعادية للحقوق الفلسطينية من التدخل فى صياغتها.
لكل هذه الاسباب يسود الآن غضب شديد في أوساط الجاليات الفلسطينية حيثما وجدت فى العالم. إذ كيف يتم تجاهل ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني؟ صوتهم مغيّب، وليست لهم قدرة على إتخاذ قرارت حول مصيرهم. كيف يمكن التشبث بشرعية مضى عليها ربع قرن، وقد اختلفت الظروف، وسقطت سياسات، ونشأت أخرى، وجاءت أجيال جديدة برؤية جديدة؟ كيف يمكن تجاهل الشباب الذين كانوا أطفالاً في الانتفاضة الأولى وهم الآن رجال ونساء يعيشون في أنحاء العالم بلغ عددهم حوالي نصف الشعب الفلسطيني، مسلحون بالعلم والمعرفة وهم أقدر بكثير على قيادة هذا الشعب ممن جلسوا على الكراسي طوال نصف قرن، وسجلهم ناصع البياض لا تشوبه شائبة الفساد أو العمالة أو العجز النفسي أو العجز الجسماني.
وخلال الشهور الستة الأخيرة عُقدت اجتماعات شعبية في الخليج العربى وأوروبا وأمريكا، كما عقدت ندوات في بيروت وعمان والقاهرة وعقد اجتماع في دمشق مع ممثلي الفصائل كلها.
وفى كل هذه الاجتماعات، هناك إجماع واسع على ضرورة انتخاب مجلس وطني جديد إنتخاباً مباشراً، وأن المماطلة والتسويف لن تواجه إلا بتحرك شعبي واسع يمثل إرادة الشعب الفلسطيني في كل مكان.
وقد نَقلتُ هذه الآراء إلى الرئيس محمود عباس في القاهرة في يونيو الماضي. فأخبرني بأن الانتخابات صعبة في معظم البلاد، فأَجبتُ بأن هذه مهمة اللجنة التحضيرية، وهي بالأضافة إلى الامناء العامين للفصائل وما تبقى من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة، يجب أن تتوسع لتشمل عضويتها 40 إلى 50 شخصاً من الجاليات الفلسطينية، فهم يمثلون أكثر من 95 % من الشعب الفلسطيني الذين لا ينتمون الآن إلى أي فصيل أو حزب أياً كان. ويجب أن يتمتع أعضاء هذه اللجنة التحضيرية بكفاءة قانونية أو دبلوماسية أو قدرة على التنظيم الشعبي أو معرفة جيدة بالبلاد التي ستعقد فيها الانتخابات. أما إضافة بضعة أسماء من أفراد الشعب للترضية إلى هذه اللجنة فهو غير مقبول. كما أن عدد أعضاء المجلس الوطني يجب أن يكون في حدود 250 عضواً باعتبار عضو لكل 40 ألف شخص. كما أن تمثيل الضفة والقطاع حسب التمثيل النسبى للسكان يساوي 30 % من المجموع (وليس 50 % كما يقترح البعض). ولكن حيث أنه تم انتخاب 132 عضواً في المجلس التشريعي، اعتبروا أعضاء في المجلس الوطني، لذلك يجب إجراء انتخابات في الخارج لضعفي هذا العدد وعليه سيكون المجموع 350 إلى 400 عضواً، وهورقم مقبول رغم أنه اكثر من المعدل المعروف عالمياً.
ويقول بعض المناهضين لهذا التوجه الشعبى: "إننا في الداخل نمثلكم جميعاً " وقال آخر: "هل تريد ان نجري إنتخابات ويصبح فلان رئيساً". وقال ثالث: "إننا سنجري تعديلات بسيطة وتنقلات واستبدالات في إطارات المنظمة والمجلس، إستعداداً لدخول جولة الانتخابات بعد 4 سنوات،ولا داعي الآن لإجراء انتخابات لأن أمامها مشاكل كثيرة".
وقد دهشت تماماً لجرأة البعض أن يتولى الوصاية على هذا الشعب، ويعطل انتخابات جديدة لئلا يخسر موقعه ومصالحه المشروعة وغير المشروعة. ورغم الاتصالات والاجتماعات اللاحقة لمتابعة أنتخابات المجلس الوطنى، فإنه لا يبدو ان هناك نية صادقة، ولا رغبة حقيقية في انتخاب مجلس وطني صادق التمثيل في الوقت الحالي. وفي اجتماع اللجنة المركزية لفتح في عمان برئاسة محمود عباس في الشهر الماضى إنشغل أعضاؤها بأمورهم الداخلية ولم يتمكن الحاضرون من الوصول إلى قرار حول موعد مؤتمر فتح العام ولا إلى أي قرار آخر حول إعادة تنظيم الحركة، وبانشغالهم هذا لم يتم بحث موضوع انتخاب المجلس الوطني، رغم أن بين يديهم مطالبات حول هذا الموضوع.
ولذلك رأى الفلسطينيون في الخارج انه لا بد من تحرك واسع لانتخاب مجلس وطني يمثل كافة الفلسطينيين اليوم في هذه الظروف الصعبة، وهو الوحيد الذي يملك السيادة المطلقة على مصير الشعب الفلسطيني ومقدراته. وأن أي اتفاق أو تسوية دون عقد هذا المجلس وموافقته فإنه لا يُلزم الشعب الفلسطيني بأي شكل. ولا يمكن الاستمرار في إهمال ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني ولا تعطيل حركة الربع الأخير الواقع تحت الاحتلال وتحت وطأة الضغوط الخارجية الاقتصادية والسياسية، ولايمكن الاستمرار فى اتخاذ قرارات مصيرية دون تفويض من الشعب.
وقد وضعت الجاليات الفلسطينية خطة لهذا التحرك، يقوم اساساً على التمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية وانتخاب مجلس وطني ممثل لكافة الفلسطينيين في العالم. ولدينا قاعدة معلومات تشمل 6 ملايين فلسطيني على الأقل، ونعرف موطنهم الأصلي ومكان إقامتهم اليوم وأعمارهم وأسماؤهم، كما أن لدينا خطة إعلامية وخطة مراقبة انتخابات وخطة مشاركة برلمانية وجمعيات حقوق إنسان متعاطفة مع فلسطين. وستوضع هذه الخطة موضع التنفيذ لأنتخابات مجلس وطنى جديد فى حال أعلنت القيادة الفلسطينية الحالية عقد انتخابات المجلس الوطني أو تأخرت فى الإعلان دون مبرر وذلك بناءً على آليات اللجنة التحضيرية بحيث يمثل أعضاؤها كافة فئات الشعب الفلسطيني بشكل سليم وفعال.
وفي نهاية المطاف فإنه لن يقرر مصير الشعب الفلسطيني إلا المجلس الوطني الجديد صاحب السيادة الوحيد. وغير ذلك لا شرعية له.