إحكى للعالم احكى له عن بيت كسروا قنديله
عـن فـأس قتلـت زنبقة وحـريــق أودى بجــديلـه
احكى عن شاة لم تُحلب عن قهوة صبح لم تشرب
عن عجنة ام ما خبزت عن سطح طينى أعشب
الشاعر سميح القاسم
هنا ولدنا وهنا نموت. هنا نشأنا وهنا قبور أجدادنا: لافتة احتجاج على مصادرة أرض النقب
شهد القرن العشرون أحداثاً جسيمة من حربين عالميتين وتقدم العلم المذهل خصوصاً فى ميدان الاتصالات والمواصلات، لكن أكثر الأحداث تأثيراً فى حياة البشر كان سقوط مختلف الأنظمة السياسية الشمولية أو العنصرية التى غيرّت حياة ثلثي البشرية فى إتجاه الاحسن. فقد انهزمت المانيا النازية وايطاليا الفاشية وسقط النظام الشيوعي وانفك عقد الاتحاد السوفيتي، وانتهي عصر الاستعمار فى معظم الاقطار الاسيوية والافريقية، وعلى الاخص طويت راية الاستعمار البريطاني فى الهند وباكستان وقبرص وهونج كونج، وتهاوي صرح الفصل العنصري (الابرتهايد) فى جنوب افريقيا، وتحول العرب من وحدة جغرافية سياسية غير مستقلة تحت لواء الدولة العثمانية إلى أكثر من 20 دولة عربية مستقلة ولكنها ممزقة سياسياً وجغرافياً.
وفى خضم هذا التيار الهائل من التحرر فى العالم، تقيم اسرائيل صرحاً متيناً من الصهيونية كعائق امام هذا التيار، تبنى حجارته من كل هذه الشرور التى اندثرت فى أماكن أخري من العالم، وتتكون مادته من الاستعمار والعنصرية التى تصل إلى مستوي النازية والا برتهايد والاحتلال واستغلال الموارد الطبيعية للغير واضطهاد الشعوب ومنعها من التقدم.
كان لابد من هذه المقدمة لفهم أبعاد نكبة فلسطين وأثار الزلزال الذى نشأ عنها، إذ لا يوجد فى التاريخ الحديث مثل آخر على أقلية أجنبية تطرد الأغلبية الوطنية وتستولي على اراضيها وتمنعها من العودة وتحرمها من الهوية والوطن وتمارس عليها العنصرية والاستعمار والاحتلال والاستغلال، وذلك كله بدعم مادي ومعنوي وسياسي من الغرب، كان ولايزال مستمراً حتى اليوم. والعجيب أن توصف أعمال الباغى بأنها انتصار للحضارة ومعجزة إلهية بينما يُنكر على الضحية فجيعتها، بل تتُهم تلك الضحية بالإرهاب والتعصب والتخلف وتُستعدى عليها دول العالم الغربي لكى تقضى عليها أو تحجمها.
حجم النكبة هو أحسن بيان لها. لقد طرُد الفلسطينيون عام 1948 من 531 قرية ومدينة وقبيلة، وأهلها هم 85% من سكان الأرض الفلسطينية التى احتلتها اسرائيل، وأرضهم هى 92% من مساحة اسرائيل. ومن آثار النكبة أن سقطت عروش واغتيل رؤساء وتغيرت أنظمة فى جميع الدول العربية المحيطة بفلسطين وسقط أكثر من ربع مليون شهيد وتشرد 5 مليون لاجيء فلسطيني إلى اليوم، وملايين أخرى من العرب فى مصر وسوريا ولبنان، وتعطلت عجلة التقدم الحضاري والاقتصادي، وأهُدرت بلايين الدولارات فى التسليح غير الفعال.
ضاع الحق العربي ضحية العجز العربي سياسياً وعسكرياً. ولم يبق للعرب ما يتشبثون به غير التمسك بالحقوق الفلسطينية بإصرار وعناد. ورغم أن الشعب الفلسطيني قد تشرد فى 5 مناطق تخدمها وكالة الغوث الدولية وثلاثين دولة أخرى، إلا إن إصرار اللاجئين على حقهم فى العودة إلى ديارهم هو الذى حافظ على وشائج هذه الشعب. فما كان هدف الفدائيين فى الخمسينات ومنظمة التحرير فى الستينات والثورة الفلسطينية فى السبعينات والانتفاضة فى الثمانينات إلا تحقيق هدف العودة. فحق العودة بالنسبة للفلسطينيين حق مقدس وقانونى، ونضيف أنه ممكن.
الكلمة والبندقية
فى الخمسينات، كان هول الفاجعة هو المسيطر على الوجدان. فلقد صاغ عارف العارف كلمة النكبة ووصفها فى ستة اجزاء، وهى أول محاولة لعمل موسوعى شامل. وكيف لا يسميها النكبة " وقد نكبنا نحن معاشر العرب عامة والفلسطينيين خاصة، بما لم ننكب بمثله منذ قرون واحقاب: فسلبنا وطننا وطردنا من ديارنا وفقدنا أبنائنا وأصبنا بكرامتنا ".وتوالت الكتب التى حررها شهود عيان أو مشاركون فى الدفاع عن الوطن، فنجد الشيخ محمد نمر الخطيب الإمام المجاهد من حيفا يصف قضية فلسطين بانها " قضية الصراع بين الحق والباطل وهى قضية إخراج أهل البلاد بقوة الظلم والمدفع ". ونجد كامل الشريف أحد قادة الإخوان المسلمين الذين أبلوا بلاء حسناً يكتب تجاربه فى حرب فلسطين ويقول إنه " ليس عيباً أن تهزم الشعوب ولكن العيب أن تستنيم للهزيمة ". ويكتب الدكتور حسان حتحوت أحد الاطباء المصريين الذين تطوعوا فى فلسطين فى ربيع 1948 يصف شجاعة المجاهدين وضعف امكانياتهم وغدر اليهود وتخاذل الحكومات العربية. على أنك لا تجد فى تلك الفترة شهادة أكثر إيلاماً وأشد وقعاً من شهادة عبدالله التل ، قائد معركة القدس، الذى وصف مفاوضات الملك عبدالله السرية مع اليهود، وتآمر الانجليز، والتخلى عن اللد والرملة لتواجه مصيرها المفجع امام قوات اسحاق رابين.
كان الهاجس الأول للفلسطينيين فى الخمسينات هو العودة إلى الوطن، فلم يقبل أحد بأن نتيجة المعركة التى توجتها اتفاقية الهدنة بسلك شائك هى نتيجة نهائية. ولم تكن المشكلة إقناع أحد بعدالة القضية عدا هؤلاء المستعمرين المجتمعين فى هيئة الأمم المتحدة وأروقة الحكومات الغربية. لذلك بدأت تنظيمات الفدائيين تعود للوطن - مرة بدافع عفوى ومرة بتنظيم من جيش عبدالناصر الذى أسقط الملك فاروق. ولم يكن مفهوماً للاجئين معنى كلمة " متسلل " التى أطلقها اليهود وقبلتها لجنة مراقبة الهدنة المشتركة، كوصف للعائدين إلى الوطن.
فى الستينات، بدا جلياً أن الجهود العفوية المتفرقة لا تكفى لتحرير وطن، وتوجت هذه المرحلة بتكوين " منظمة التحرير الفلسطينية "، تحت رعاية الدول العربية التى ما لبثت أن تقلصت لتصبح المنظمة إسما وفعلاً فلسطينية الاصل والفروع. وتميزت تلك الفترة بالخطب النارية لأحمد الشقيرى فى محافل الأمم المتحدة ممثلاً لدول عربية ثم لجماهير الشعب الفلسطيني.
شارك الشقيرى فى جميع مراحل النضال الفلسطيني وقاده فى الستينات إلى أن تولى ياسر عرفات رئاسة المنظمة. عمل فى المكتب العربي فى واشنطن عام 1945، وفى القدس مقدماً تقريراً إلى لجنة التحقيق الانجلو امريكية، وانضم إلى الوفد السوري عام 1947، ووفد الجامعة العربية لمقابلة الكونت برنادوت عام 1948، والوفد السوري أمام لجنة التوفيق الدولية (49 – 1951)، والامم المتحدة (1955) ثم الوفد السعودي هناك (1960) ثم ممثلاً لفلسطين فى الجامعة العربية (1963)، وتوجهت جهوده بانشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ولحقها مركز الابحاث الفلسطينية.
كتب الشقيرى كثيراً وخطب أكثر. كانت موهبته الكلامية موجهة نحو استنهاض الهمم ورفع المعنويات ورفع الظلم والدعوة إلى تحرير فلسطين. وكان يكتب ويخطب بصدق وحرارة تجاوزت فى بعض الاحيان الحدود التى يضعها الدبلوماسيين على أنفسهم، مما أثار عليه كثيراً من المشاكل. لقد كان تأثيره على الجماهير العربية أكبر بكثير من تأثيره على المحافل الدولية التى تصغى للغة القوة والمناورات الدبلوماسية. كانت رسالته واضحة: فلسطين بلد عربي يجب أن يعود لأهله، والصهيونية حركة عنصرية توسعية لا قبول ولا اعتراف بها.
لكن نكسة 1967 نقلت الجدل الكلامى عن قضية فلسطين مرة أخرى من ميدان القتال إلى هيئة الأمم المتحدة التى لم تعترف حتى ذلك الوقت بالشعب الفلسطيني كباقي شعوب العالم عدا تأكيد الهيئة لقرار 194 الذى يعطى اللاجئين حق العودة. وصدر قرار مجلس الأمن رقم 242 الذى يقضي بعدم جواز احتلال الاراضي بالقوة ولكن يترك تفسير ذلك غامضاً، وأشار القرار إلى اللاجئين داعياً إلى " حل عادل " لقضيتهم. شهدت السنوات التالية حرب الاستنـزاف، وبروز حركة المقاومة الفلسطينية، وبدأت معركة دبلوماسية ضارية فى الأمم المتحدة للاعتراف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، كما نرى فى الرواية المعبرة للسفير الاردني الدكتور محمد الفرا ، الذى شارك فى هذه المعركة فى أروقة الأمم المتحدة.
لقد اعترفت الأمم المتحدة بمبدأ تقرير المصير كمبدأ أساس عام 1969. وفى السبعينات طبقت هذا المبدأ على الفلسطينيين عام 1974 فى سابقة دولية ليس لها مثيل. إذ أكد القرار 3236 على الحقوق الفلسطينية " غير القابلة للتصرف " واعتبر أن العودة " حق "، وربط لاول مرة بين حق تقرير المصير وحق العودة، بل دعا الدول إلى مساعدة الفلسطينيين على تحقيق هذه الحقوق بكل الوسائل بما فيها الكفاح المسلح. كانت السبعينات عقداً ذهبياً فى تاريخ حركة المقاومة الفلسطينية، ابتدأت بمعركة " الكرامة " فى الاردن، وعند انتكاسها فى " ايلول الاسود " عام 1970، عادت للظهور فى لبنان، وازدهرت بزخم ثقافي وسياسي منقطع النظير. وأصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية برئاسة وليد الخالدى ومركز الابحاث الفلسطينية برئاسة أنيس الصايغ أعمالاً هامة متعددة باللغة العربية والانجليزية عن كل جوانب القضية الفلسطينية التاريخية والقانونية والسياسية. وأعيد احياء ذكرى فلسطين والفلسطينيين والحياة الفلسطينية خلال أعمال الفنون التشكيلية، وأولها وأكثرها انتشاراً اعمال اسماعيل شموط ، وامتدت إلى الموسيقي والرقص الشعبي والمسرح.
طائر الفينيق يعود
لم تقتصر قضية فلسطين فى تلك المرحلة على مداولات الجامعة العربية والأمم المتحدة، بل أعاد اللاجئون (الذين أصبحوا الآن ثواراً وفنانين واقتصاديين ومهندسين) تركيب وبناء فلسطين فى المنفى، كاملة النص والروح، تاريخها متكامل، ولكن جغرافيتها مزحزحة عن مكانها مائة ميل فى بلد اللجوء. لقد صورت مارى صايغ عملية الاستنساخ هذه ببراعة وبلاغة فى كتابها بالانجليزية "من فلاحين إلى ثوار ".
لم تعد القضية قضية لاجئين، فهؤلاء يريدون العودة إلى ديارهم، وغيرهم يريد لهم ما يكفى من الغذاء والمأوى (فى أى مكان عدا الوطن) لاتقاء شرهم ودفن هذه المشكلة إلى الأبد. أصبحت الصورة المماثلة للعيان امام العالم هى صورة شعب متكامل متميز عن غيره له حقوق معترف بها دولياً، وتعرض لظلم ليس له نظير من الصهيونية قرينة العنصرية، ويسعى إلى تحقيق عودته على وطنه. ولعل أبلغ دليل على ذلك أنه تم الاعتراف فى تلك الفترة بمكاتب المنظمة فى ضعف عدد الدول التى اعترفت باسرائيل.
وعقدت المؤتمرات والندوات فى انحاء مختلفة من العالم تؤيد الحقوق الفلسطينية وصدرت عشرات من الدراسات القانونية والاقتصادية والتاريخية والسياسية والثقافية تشرح هذه الحقوق، وتكونت جمعيات وهيئات داعمة للحق الفلسطيني فى بلاد كثيرة.
وما لبث هذا الازدهار أن ذوى، لنفس الاسباب التى أدت إلى هزيمة فلسطين عام 1948. فى كليهما كان الحماس والعاطفة أكبر حجماً من التنظيم والفعالية، وكان الكلام أكثر بلاغة وأقل أثراً من العمل. وأدت إدارة الازمات التى نشأت وأنشئت فى الساحة اللبنانية، سواء كانت محلية أو خارجية، إلى الخروج من لبنان والشتات مرة أخرى إلى بلاد أبعد عن فلسطين مثل العراق واليمن والسودان وتونس والجزائر.
واختتم عقد الثمانينات المحزن بزلزال الأنتفاضة الذى أخذ الجميع على حين غرة، فعندما ألقي المقاتلون فى الشتات سلاحهم، واطمأنت اسرائيل أن جيل الشباب الذى ولد وترعرع فى ظل الاحتلال لا يمكن أن يثور، إذ بالنار تحت الرماد تشتعل فى أكبر مدينة وأصغر قرية. وإن كانت حصيلة الانتفاضة محل جدل، فإن ما لا يجادل فيه أن الانتفاضة نقلت قضية فلسطين إلى كل بيت فى العالم. كان واضحاً فى الصور المنقولة من هو الطاغي ومن هو الضحية، ولم يعد بإمكان اسرائيل أن تستمر فى خداع العالم الغربي. وأهم نصر للفلسطينيين فى تلك الفترة هو استقطاب جماعات حقوق الانسان التى انتشر تأثيرها وزاد عددها زيادة هائلة فى التسعينات من هذا القرن، خصوصاً بعد انتشار الانترنت. لقد خلقت الجماعات غير الحكومية التى تعنى بحقوق الانسان وتقاوم الاضطهاد والتعذيب والعنصرية، قوة شعبية من البرلمانات الموازية التى لا تملك حكومة ديموقراطية تجاهلها. كما أن سرعة نقل المعلومات أدت إلى سرعة رد الفعل ايضاً. خلال ساعات من حادث القبض على ناشط سياسي أو تدمير بيت أو سجن شعب بإقفال منافذ المدن والقرى، ينتقل الخبر ويتعاظم وينتشر. وحتى لو لم يرتدع الباغي لا يستطيع هو أو من يدعمه أن يدعي الجهل بما حدث. وكم كان معبراً ما رأيت على موقع انترنت فى الضفة ينقل أخبارها من داخل هذا السجن إلى خارجه، إذ تقول العبارة على شاشة الحاسوب " نحن لا نقفل عند الإقفال ".
من أجل هذا كله، إكتسب الخطاب السياسي الفلسطيني صفة عالمية فى الانتشار والصياغة. وبينما كان الفلسطينيون ينتظرون قطاف هذه الثمار، وقعت لهم فاجعة ثالثة أسمها " أوسلو " التى جاءت لتنقذ قيادتهم مما وقعت فيه، لا لتستعيد حقوق الشعب الذى تمثله. فعادوا إلى دفاترهم ليعيدوا تلاوة الثوابت.
النكبة في الذاكرة
هذه " النكبة " التى لا تزال آثارها ماثلة أمام أعيننا لا يمكن أن تنسى. ورغم مرور نصف قرن على النكبة فإن الشعب الفلسطيني لا يزال صامداً ولو أنه مثخن بالجراح ويتأرجح بين التشاؤم والتفاؤل. لكن ذاكرته لا يمكن أن تندثر. والدليل أمامنا ساطع. فهذه كتابات مؤرخين وباحثين ومحاربين قدامي وأشخاص عاديين هزتهم الاحداث فكتبوا عن الآمهم وأمالهم وحقوقهم الضائعة. كتب محاربون قدامي مثل بهجت أبوغربية وصالح الشرع وعبدالحليم الجيلاني . كتب آخرون عن حياتهم مثل يوسف هيكل وهشام شرابي وعبداللطيف كنفانى ، ومنهم كتب بالانجليزية مثل ادوارد سعيد وغادة الكرمي وجورج طبة وابراهيم الفوال وسعيد أبوالريش وفوزى الأسمر وهالة سكاكيني.
وحظيت المدينة أو القرية التى عاش فيها الناس وتوالدوا وماتوا بالنصيب الأكبر من تسجيل الذاكرة. كتبوا عن بلادنا فلسطين وبلدانيات فلسطين ومدائن فلسطين ومدن فلسطين وعن يافا وحيفا وعكا واللد والقدس ومدن أخرى ، وسجلت عشرات الكتب سيرة حياة القرى وأهلها.
لم تكن استعادة الذاكرة مجرد حنين إلى الماضي الذى يزداد جماله كلما طال الزمن، بل كانت تخيلاً للمستقبل الموعود. أصبح الماضي هو صورة المستقبل المطلوب تحقيقه. وهو بهذا الفهم ما هو إلا تسجيل للحقوق وتأكيد عليها، على لسان شاهد عاش الحقيقة التى طمُست وخَبرِها ثم نقلها إلى أولاده وأحفاده. كواحد من هؤلاء الشهود كتبت " رسالة إلى أبنتى "، التى لم تر الوطن، بعد سعي حثيث لتوثيق الماضي الذى عرفته. لقد بحثت عن تاريخ عائلتي فى المكتبات الاوربية، التى حفظت تاريخ غزوات الاوربيين وبعثاتهم الاستكشافية وجواسيسهم ورحّالتهم وحجاجهم إلى الأراضي المقدسة.
فى مكتبة الجمعية الجغرافية الملكية، أجد أوراق جننج براملى عن جنوب فلسطين وعشائرها، ومجلدات ألوا موزل الذى كان يعمل لحساب الامبراطور النمساوى فى اواخر القرن الماضي، ومثلها مجلدات أوبنهايم الذى كان يعمل لحساب الامبراطور الالماني، وكلها تذكر موطنى واسم عائلتي. وفى مكتبة وزارة الدفاع البريطانية، أجد خرائط اللنبى التى تذكر مسقط رأسي ومثلها السجل العسكري فى متحف الحرب الاسترالي. وفى مركز المحفوظات البريطاني، أجد أوراق هربرت صمويل التى تذكر مقابلة تشرشل لوالدى مع غيره من أعيان فلسطين عام 1921. وفى المكتبة الوطنية فى باريس أجد خرائط جاكوتين وتقارير العلماء الفرنسيين عام 1799 عن عشائر فلسطين. وأقفز من على كرسيّ عندما أقرأ أن فكتور جوران الرحالة الفرنسي فى فلسطين كلها قابل جد أبي فى 13 يونيه 1863 مع كوكبة من فرسانه سائلاً إياه عن سبب تجواله فى بلاده. وأجد كذلك كتابات القس جوسن الذى تحول جاسوساً، وتنقل من القدس إلى شرق الاردن ثم العقبة والعريش وعاد إلى القدس حاملاً اسماء العشائر وأعدادها وأخبارهم فى الحرب العالمية الأولي. وفى متحف الحرب الالمانى فى ميونيخ أجد أول صور جوية أخذت لفلسطين عام 1917. وفى الأرشيف التركي الملحق بمكتب رئيس الوزارة فى استنبول أجد المراسلات التركية من متصرف القدس وإليه التى يشكو فيها من سيطرة عشيرتى على البلاد وعصيانهم على الدولة عام 1800.
لأكثر من عشر سنوات جمعت المراجع والخرائط والمعلومات، دون كلل، ولم يكن فى ذهني هاجس شخصي أو مسحة من غرور أو عصبية. كان هدفي إثبات حقي فى تلك الرقعة الصغيرة التى عرفتها طفلاً وهي جزء من نسيج فلسطين الوطني. وكنت أجمع الشهود والقرائن لاحضرهم إلى محكمة الحق المتخيلة ليسجلوا كلمتهم بحيث لا تنمحي بعد ذلك. بل إنني غامرت فى محاولة لا طائل من ورائها لمواجهة العدو بجريمته، بأن أرسلت نبذاً من هذه الوثائق إلى الكيبوتسات التى تحتل أرضي، مذكراً اياهم بأن هذه أرضي، وسأعود إليها مهما طال الزمن !
ومثل هذا التوثيق الشخصي، يأتي التوثيق لتراث الأمة الشعبي، إذ نجد مؤلفات عن الخراريف، والامثال، والعادات . وهو الأمر الذى انشغل به بعض المستشرقين الذين عاشوا فى فلسطين سنوات عديدة لتسجيل حياة أهل الأرض المقدسة. ورغم أنهم كتبوا بلغات أجنبية لم تترجم حتى اليوم، إلا أننى أجد فيها شهادة دامغة بالحقوق الفلسطينية. من هؤلاء العلامة الالمانى غوستاف دالمان الذى أخرج عملا موسوعياً شاملاً عن حياة الفلسطينيين، وبالدينـز برجر الذى ولد فى فلسطين والأنسة جرانكفست التى عاشت فى قرية أرطاس عدة سنوات، وكلهم كتبوا فى اواخر القرن الماضي ومطلع القرن العشرين.
ومن أوائل الكتابات الفلسطينية عن التراث أعمال الطبيب الموهوب توفيق كنعان . كان يتقن التركية والالمانية والانجليزية وكتب على مدي 40 عاماً ابتداء من عام 1914 باللغات الاوربية والعربية عن التراث وعلم الأجناس وحقوق المرأة والحقوق الفلسطينية. وكجزء مميز من الشعب الفلسطيني، كتب عن البادية الكاتب الصحفي ووزير الثقافة الاسبق فى عمان جمعة حماد والكاتب الشعبي أحمد أبوخوصة ، وكتب عبدالكريم الحشاش عن الامثال والعادات البدوية، على أن أكثرها صدقاً وبلاغة ما كتبه اسحاق الدقس بعنوان " طفولة بدوي " مما جعل جريدة التايمز العريقة تنشرها على حلقات بالانجليزية. وكتب غازى فلاح عن عرب النقب يصف اوضاعهم المأساوية فى الثمانينات.
وهل يمكن أن نغفل الرواية فى تسجيلها للحقوق الفلسطينية؟ ومن منا ينسي " رجال فى الشمس " لغسان كنفانى، "والمتشائل" لاميل حبيبى ! لكن ميدان الأدب له أربابه. فقد أوفت سلمى الخضراء الجيوسى هذا الموضوع حقه فى أعمالها الموسوعية.
وتبقي كتابات الشخصيات الفلسطينية التى شاركت فى الحركة الوطنية الفلسطينية سجلاً حياً للحقوق الفلسطينية كما رأوها. وتبقي كتابات هذه الشخصيات قليلة قياساً بالعدد الذى قاوم الاحتلال والاستعمار، لكنهم يتمتعون بمهارة الكلمة ودقة التوثيق. من هؤلاء نجد عارف العارف الذى سبقت الاشارة إليه، ومحمد عزت دروزة الذى عاش حياة حافلة عاصر فيها ثورة عرابي حتى غزو اسرائيل للبنان، وكتب فيها عن التراث وعن حياة سياسية حافلة أكثر من خمسين كتاباً، وعجاج نويهض الذى كان شاهدا وفاعلاً فى الحركة السياسية اثناء النكبة وقبلها، وعزت طنوس الذى عمل فى المكتب العربي فى لندن وبيروت ونيويورك، وأكرم زعيتر الذى كان زعيماً فلسطينياً فاعلاً فى عهد الانتداب.
وعندما هزت النكبة كيان الأمة العربية وسقطت عروش وحكومات، تنادي المخلصون يبحثون عن الأسباب والحلول. وكتب قسطنطين زريق ، ووليد قمحاوى وهانى الهندي وغيرهم كثير يشخصون العلل ويبحثون عن الخلاص الذى يجدونه فى الديموقراطية وفى الوحدة العربية وفى ضرورة حمل السلاح وفى التحالفات الاقليمية الدولية.
وفى بداية الصراع، لما تبينت للدول العربية أهمية الدول الغربية فى خلق الصراع وتوجيهه وأدركت ابتعادها تأثيراً وثقافة عن الغرب، بدأت محاولات صغيرة ما لبثت أن كبرت، لشرح القضية الفلسطينية للغرب باللغة الانجليزية ومن أولها ما كتبه المحامي هنرى كتن وخبير الاراضي سامى هداوى، لكن أهم دعاة الحقوق الفلسطينية فى الستينات كان بلا شك فايز صايغ وكذلك جورج طعمه، وكلاهما كانا يعملان فى الوفود العربية فى الأمم المتحدة.
ونشر المؤرخ الفلسطيني البارز وليد الخالدى أبحاثا هامة فى التاريخ الفلسطيني بالعربية والانجليزية، لعل أكثرها وقعاً هو اثبات كذب الدعاية الصهيونية بأن العرب هم الذين أمروا الفلسطينيين بالخروج من ديارهم، بل أثبت على العكس أن خروجهم كان بخطة صهيونية منظمة بدأت فى ابريل عام 1948 اسمها الخطة دالت. ولا تزال أعمال مؤسسة الدراسات الفلسطينية التى يديرها وليد الخالدى تسجل التاريخ وتكشف الزيف، وآخرها موسوعة " لكيلاننسى " وهى سجل بالقري الفلسطينية المهجرة.
وقام مركز الابحاث الفلسطينية برئاسة أنيس صايغ بإصدار عدد كبير من الكتيبات والأبحاث عن كل جوانب القضية الفلسطينية، وكان للمركز فى السبعينات تأثير قوى على الفكر السياسي العربي. وقبل اغتياله في ربيع الشباب أصدر عبدالوهاب الكيالى كتاب " تاريخ فلسطين الحديث " وهو من اوائل المصادر التى اعتمدت مباشرة على الوثائق البريطانية. إذن تكون فى هذه الفترة مناخ أنتج كثيراً من الأعمال التى تحدد كينونة الشعب الفلسطيني وتراثه وتدافع عن حقوقه الوطنية. لكن الحاجة كانت شديدة إلى تعريف الثوابت وشرحها فى إطار قانوني وعلمي يفهمه الغرب وتقره المحافل الدولية.
الكتابات الحديثة
أهم الحقوق الفلسطينية هو حق العودة إلى الوطن، فهو حق مقدس وقانوني وممكن . هو حق مقدس لانه فى وجدان كل فلسطيني يحمله معه أينما كان. وليس أبلغ من كلمة كتبها اسرائيلي: " عجيب أمر هؤلاء الفلسطينيين. فى كل العالم، يعيش الناس فى مكان. أما الفلسطينيون فالمكان يعيش فيهم ".
وهو قانوني بإجماع دولي ليس له نظير. القرار 194 القاضي بحق العودة مولود من صلب القانون الدولي، أكد عليه المجتمع الدولي 110 مرات خلال خمسين عاماً. ولو نجحت اسرائيل بمعجزة فى إلغائه، فإن حق العودة مكفول بالميثاق العالمي لحقوق الانسان (المادة 13)، وهو الميثاق الذى أعترفت به الدول الأوربية كجزء من تشريعاتها، له السبق على القوانين المحلية لو تعارضت معه.
وحق العودة مكفول بحق الأنتفاع بالملكية. ولا ينقض الملكية احتلال أو تغيير فى السيادة، مهما طال الزمن. وحق العودة مكفول للافراد بموجب حقوق الانسان، وللجماعة بموجب حق تقرير المصير. وهو لا يسقط بالتقادم ولا بعقد اتفاقيات أو معاهدات. وهو " حق "، وليس تأشيرة سياحية تفقد مفعولها بعد حين. ويمكن ممارسته فى أي وقت، ولذلك فإن الرغبة فى العودة أو عدمها لا ينقض هذا الحق.
والخرافة الاسرائيلية التى تقول أن الفلسطينيين تركوا ديارهم بمحض إرادتهم، وهى الخرافة التى كشف كذبها المؤرخون الاسرائيليون أنفسهم، لا قيمة لها على الاطلاق. فحق العودة مكفول بغض النظر عن أسباب الخروج. بل إن اسرائيل مسئولة عن الضرر الواقع على الفلسطينيين بخلع الجنسية عنهم وطردهم.إذ ينص القانون الدولي على حق الفلسطينيين فى جنسية بلادهم بغض النظر عن ماهية الدولة التى تبسط سيادتها على أرضهم. فالقانون الدولي يقضي بأن " الأرض والناس متلازمان، ومن يتولّ واحدة، يتولى الأخرى ".
ويقضي القانون الدولي بحق الفلسطينيين فى التعويض. ومبدأه هو " إرجاع الشىء إلى أصله ". وبموجب ذلك يستحق الفلسطينيون التعويض عن الاضرار والخسارة المادية التى لحقت بالإفراد مثل تدمير بيوتهم واستغلال أرضهم لمدة خمسين عاماً، والتى لحقت بحقوق الجماعة فى المياه والمعادن والمحاجر والغابات والطرق والمواني والمطارات والشواطىء وغير ذلك. كما يستحقون تعويضاً عن الاضرار المعنوية الفردية مثل المعاناة النفسية وفقدان العائلة، والجماعية مثل فقدان الهوية والتشرد. ويستحقون تعويضاً عن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والسلام مثل القتل والتدمير والتعذيب والسجن والتنظيف العرقي. وبعد كل هذا فلهم الحق فى استعادة الأملاك والعودة لها، وليس التعويض عن قيمتها، فالوطن لا يباع. وخلافاً للمقولة الشائعة: العودة أو التعويض، فإن الحق هو فى العودة والتعويض معاً.
ولا شك أن قطاعات كبيرة فى المجتمع الغربي، حتى تلك التى تتعاطف مع الشعب الفلسطيني وتقر له بحقه القانوني، تقع فريسة للخداع الاسرائيلي أن العودة غير ممكنة عملياً، لان الحدود ضاعت، والبلاد ملآنة باليهود.
لقد كتبت فى التسعينات كثيراً عن ذلك بناء على دراسات فى الجغرافيا والسكان والمياة والزراعة، وبينت خطل هذا القول. وإن يكن هناك الآن تغيير فى الخطاب الفلسطيني امام العالم فهو ابتعاده عن العواطف واستدلاله بالارقام والخرائط والتحليل، وهو الأمر الذى يأخذ الاسرائيليين بالمفاجأة ويعجزهم عن الرد.
التقنية الحديثة فى علم الخرائط تستطيع اليوم تحديد كل دنم، أين هو وماذا حدث له من التغيير. وسوء الطالع الذى حظيت به فلسطين فى كونها مطمع المستعمرين أفرز ثمرة مفيدة. فلا يوجد فى الشرق مثل فلسطين بلداً أكثر توثيقاً ودراسات، إذ لدينا خرائط منذ حملة نابليون عام 1799 ومن البعثة البريطانية عام 1871، ناهيك عن خرائط الانتداب البريطاني وسجلات الملكية التى ورثتها (أو قل نهبتها) اسرائيل وطورتها إلى عصر الأقمار الصناعية.
أما القول بأنه لا يوجد متسع فى المكان، فهو قول خطأ فى مبدأه وتطبيقه. مبدأه يعني ضمناً أن على الفلسطينيين أن يختفوا من فلسطين لافساح المجال لكل روسي أو اثيوبي يحمل اوراقاً تثبت ديانته اليهودية، وهذا الفرض منبوذ قانوناً واخلاقياً. وتطبيقه يتجاهل الحقيقة. فلقد أثبتنا أن 80 % من اليهود يعيشون فى 15 % من مساحة اسرائيل.ومن باقيهم يعيش 17 % منهم فى عدة مدن فلسطينية مثل اسدود وبئر السبع والناصرة. ويبقي 3 % هم سكان الكيبوتس والموشاف. هذا يعني أن حوالي 150,000 مزارع يهودي يسيطرون على أكثر من 18 مليون دنم هى إرث وتراث خمسة ملايين لاجىء. أي مبدأ انسانى أو قانوني عادل أو سلوك متحضر يقبل بهذه الجريمة؟
وواقع الأمر أن عودة اللاجئين واسترجاعهم لأراضيهم لا يصيب اليهود الاسرائيليين بأي ضرر. هذه من ناحية عملية. أما من ناحية قانونية أو إخلاقية، فليس هناك إلزام على الفلسطينيين أن يبقوا مشردين فى الشتات دون هوية أو وطن، لكي يستمتع هذا اليهودي الروسي أو الاثيوبي ببيت آخر غير بيته الأصلي، هو بيت الفلسطيني المطرود. ومن مهازل هذه المفارقة أن الكيبوتس الذى تربي فيه اوائل الصهاينة كرمز لالتصاق اليهودي الجديد بالأرض “ وعودته “ إلى ترابها قد أفلس فكرياً واقتصادياً. إذ لم يعد بالإمكان إقناع الجيل الجديد من المهاجرين بالعيش هناك وأصبحت بالية وخرافية صورة الرواد التى كانت تنشر لهم فى الغرب وهم يحملون البندقية بيد، ويقودون المحراث باليد الأخرى، فى إتجاه الأفق البعيد الذى تشرق الشمس فيه على أرض قاحلة فارغة من الناس تنتظر مخلصها الصهيوني ليعيد إليها الخضرة والبهاء.
وما أن يصل المهاجر الجديد حتى يدفعون به إلى احدى الكيبوتسات المترامية فى أطراف البلاد وعلى الحدود، لكنه لا يلبث أن يجد طريقه إلى منتصف البلاد حيث الحياة التى تعود عليها اليهود فى المدينة التى يمارسون فيها اعمال التجارة والمال. لقد فشل الصهاينة فى جعل الزراعة مهنة لهم. لقد هجروا عشرات من مستعمرات الكيبوتس، وتدل الاحصاءات أن 26% من هذه المستعمرات تنتج 75 % من المحصول بينما يكون انتاج ثلاثة أرباعها هزيلاً. ولأول مرة، زاد عدد العمال المستأجرين على عدد العاملين فى الكيبوتس، فحتى الباقين منهم لم يتحملوا كامل العبء منفردين. ورغم أن الناتج المحلي الاسرائيلي قد زاد زيادة كبيرة منذ عام 1948 إلا أن نصيب الزراعة منه قد أنخفض من 8 % عام 1983 إلى 4ر2 % عام 1993، والناتج الزراعي يمثل 4 % فقط من قيمة الصادرات.
والأدهي من ذلك أن الزراعة الفاشلة تستهلك 80 % من المياه فى اسرائيل وثلاثة أرباعها مياه عربية مسروقة، وهي بذلك تضيع هدراً. هذا رغم أن اسرائيل تغدق المياه على الكيبوتس بأسعار تساوى خُمس أو عشر الأسعار التى تتقاضاها من سكان تل أبيب. ولو استمر الحال على ذلك، مع زيادة عدد المهاجرين الروس، فان الحاجة إلى كميات إضافية من المياه ستؤدي بلا شك إلى حرب جديدة، كما بينت فى بحث سابق، لان مياه فلسطين والمياه العربية المجاورة كلها قد استهلكت ولم يعد مجال لغيرها إلا باحتلال أرض عربية جديدة.
وقد ظهرت الآن علامات واضحة على انخفاض مستوي المياه الجوفية وتلوثها بالإملاح، وخطورة استعمال مياه المجاري المكررة. وهو أمر سيزداد سوءاً مع الوقت ومع زيادة عدد المهاجرين.
والسبب فى إصرار إسرائيل على تدمير البيئة وهدر المياه والسيطرة على تلك المساحة الهائلة من أراضى اللاجئين، هو منع اللاجئين الفلسطينيين من العودة بمنح غنيمة الحرب هذه إلى تلك النخبة من الصهاينة الاوائل الذين كانوا ولا يزالون يكونون ثقلاً سياسياً هاماً فى الجيش والكنيست. ولو عاد اللاجئون إلى ديارهم وامتهنوا الزراعة التى جبُلوا عليها منذ قرون، لأنتجوا أحسن المحاصيل بأقل التكاليف، وهو ما أثبتوه فى غزة ذات المساحة الزراعية الضيقة والمياه المالحة والحرية المقيدة.
هذه الدراسات وأمثالها تعد غير مألوفة فى النصوص العربية، لأنها كانت تخاطب زماناً آخر. فعلى الجانب العربي كانت تستنهض الهمم، وعلى الجانب الغربي كانت تذكر بالحقوق الشرعية والقوانين الدولية. ولكن بعد أوسلو ومشاركة امريكا وأوربا مشاركة من نوع آخر، ليس بالسياسة فحسب، فهذا قديم، بل بفتح الحوارات وعقد المؤتمرات وتقديم المساعدات. فأصبح لزاماً علينا أن نقارع الحجة بالحجة وأن نستخدم اللغة التى يفهمها العالم، بعد تطور الاتصالات المذهل، وبعد أن تبين أن عائد العمل المسلح، كما مارسته الفصائل وليس بمطلقه، عائد هزيل رغم الارواح الزكية التى بذلت فى سبيله.
الخطاب السياسي بعد أوسلو:
عندما تبخرت الآمال فى استرجاع إتفاق أوسلو للحقوق الفلسطينية – وهو أمر كان من الممكن التنبؤ به إذا أخذنا فى الاعتبار قدرات الطرف الفلسطيني وأدواته وربما أهدافه – أصيب معظم الناس بالاحباط، وتمسك الملتزمون منهم بالثوابت، أما القلة فقد قبلت بهذا الوضع كنوع من " الواقعية السياسية ". وهو تعبير آخر عن عجز هذه القلة عن تحقيق الهدف الذى تولته، وإنقاذاً لنفسها من الحفرة التى وقعت فيها بسبب اداءها الهابط. ووجدت تلك القلة أنه بالامكان إنقاذ مستقبلها السياسي بالهبوط بمستوي أهدافها، بدلاً من الصعود إليها. وهذا ما حبذته اسرائيل، بل سعت إليه، ولحقت بها أمريكا، ملوحة بالقوة من جهة والمال من جهة أخرى. وفجأة أصبح "الارهابيون" معتدلين، والمقاتلون من أجل حرية شعبهم سياسيين بارعين يفهمون ميزان القوى. وأكتسبت هذه القلة، التى بقيت الفئة الوحيدة التى تمسك بزمام الأمور، أحتراماً دولياً ومالاً ونفوذاً تمارسه على من تبقي تحت سطوتها من الشعب الفلسطيني.
أما الفئة التى تمسكت بالثوابت، فقد لجأت إلى الكلمة، السلاح الوحيد الذى بقي فى اليد، للتعبير عن الحقوق الفلسطينية. كتب عبدالقادر ياسين ومحمد خالد الأزعر وحمد سعيد الموعد ونبيل السهلى وماجد كيالى وحلا رزق الله وناجح جرار وغيرهم كثير عن أوجه مختلفة من حقوق اللاجئين فى العودة والتعويض.وكتب سهيل الناطور كثيراً عن حياة اللاجئين فى لبنان. وكتب كميل منصور وصبرى جريس وعزيز حيدر وأسعد غانم ونديم روحانا ونورى العقبى وراسم خمايسي وأحمد أشقر وغازى فلاح عن حقوق الفلسطينيين فى اسرائيل ومن بينهم المهجرون، هؤلاء اللاجئون المنسيون فى اسرائيل.
وساهمت مؤسسة الدراسات الفلسطينية فى توضيح الحقوق الفلسطينية، قانوناً وتاريخاً وسياسة واحصاء، فصدرت كتابات لها عن لجنة التوفيق الدولية وحق العودة وكتب سليم تمارى وايليا زريق وايليا صنبر عن المفاوضات فى اللجان متعددة الأطراف واللجنة الرباعية ( التى عالجت مواضيع هامشية عن حقوق اللاجئين)، ومنيت بالفشل المحتوم، فقد توقفت هذه اللجان أو أصبحت تدور فى حلقة مفرغة.
وعالجت منظمة الأمم المتحدة لغرب آسيا (إسكوا) القضايا السكانية للاجئين فكتب جورج قصيفى دراسات عن احصاءات الفلسطينيين وحقوقهم فى قرارات الأمم المتحدة. ولا ننسى بالطبع منشورات وكالة الغوث الدولية (الاونروا) بالعربية والانجليزية عن حياة اللاجئين المعيشية والصحية والتعليمية وعن أعدادهم وتوزيعهم وعن حقوقهم كما قررتها الأمم المتحدة. ورغم أن الاونروا تلتزم الحياد فى مطبوعاتها، فما تكتبه يكفى ليفهم العالم تلك المأساة، لانها ليست فى حاجة إلى المبالغة أو المزايدة. ولهذا السبب، فان اسرائيل تشن عليها حرباً شعواء وتستنبط كل الحيل لمحاولة تصفيتها.
ولا تقتصر الكتابة على المتخصصين أو المحترفين، إذ يشعر البعض بالغبن الذى وقع على اللاجئين، مما يدفعهم إلى الكتابة، مثل وليد سالم ويوسف القراعين وفالح الطويل ومحمد المجذوب 61}}.
ووصلت عدوي " الواقعية السياسية " إلى بعض الكتاب الذين وجدوا مناخاً مناسباً لذلك. وقد هيأ هذا المناخ الاجواء الكرنفالية التى صاحبت توقيع أول اتفاقية من تلك السلسلة التى لم تنته بعد من الاتفاقيات، وداعبت أحلامهم سوق شرق أوسطية تغدق الأموال على العرب. ولم تكن مصانع " الثقافة السياسية " بعيدة عن ذلك. فأدى فيض التمويل على مناخ السلام إلى تكوين عدد كبير من المؤسسات غير الحكومية (NGO) التى تعنى بحقوق الانسان وحقوق اللاجئين ودراسات أوضاعهم. وقام كثير من هذه المؤسسات بدور مشرف، إعلامي وعلمي، فى هذا المسعي، ويكفى أن نقرأ منشوراتهم مطبوعة أو على الانترنت لنجد الجهد والفائدة بارزتان للعيان. هذا هو الجانب الايجابى. أما الجانب السلبي بالنسبة لحقوق اللاجئين فقد وجد هذا المناخ السياسي والتمويلي من هذه المؤسسات من يدعو إلى تقليص هذه الحقوق أو تفسيرها بحيث يفرغها من مضمونها. وبدأت حرب فكرية واسعة النطاق جيدة التمويل لعقد المؤتمرات والندوات والحوارات المشتركة بين هؤلاء الاسرائيليين والفلسطينيين الذين يلتقون على حافة الهامش المشترك بينهما. فكلاهما يؤمن بالسلام ولكنه يعنى لكليهما القبول بالواقع المر والتعايش معه. ومدخله أن ما فات قد مات ودعنا نسير معاً يدا بيد نحو شمس المستقبل المشرقة. وهذا يعنى ببساطة أن القاتل يعفي من جريمته والناهب يفوز بغنيمته وليس للمقتول دية ولا يحق للمنهوب استرجاع حلاله. ولو كان حدوث القتل والنهب فى غفلة من الزمن وعن غير قصد إجرامي، لبدا أن المسامحة من الأخلاق الكريمة وأن الصفح من شيم الكرام. لكن الذى لا يغيب عن الذهن أن القتل والنهب هما عقيدة وليسا صدفة تاريخية. وأن الضحايا لم يسقطوا فى يوم واحد من عام 1948، بل سقطوا فى كل يوم منذ عام 1948 إلى اليوم وإلى غد وبعد غد. وان القاتل أو الناهب لم يعبرّ عن تخليه عن الجريمة التى ارتكبها سابقاً والتى ينوى ارتكابها غداً. فكيف يكون الصفح اذا هو نهاية الطريق؟
لذلك نجد أن ما يكتبه بعض الفلسطينيين عن” الواقعية “، وهم لحسن الحظ، لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، هو صراخ فى واد مقفر، ولو سمعه الناس، لوجدوه نشازاً. وهم لا يسمعونه غالباً، لأنه مكتوب بالانجليزية، حيث يجد الثناء والتكريم والإعادة والاشارة والاقتباس كصوت فلسطيني معتدل.
بم ينادي هذا الصوت؟ ينادي بأن ما فات قد مات وأن معاناة اللاجئين وعذابهم نصف قرن تمسحه كلمة اعتذار من اسرائيل دون أن يعنى هذا الاعتذار أي مسئولية أدبية أو قانونية أو حتى مالية. ومقابل ذلك يقدم الفلسطينيون حقهم فى العودة قرباناً لهذا النطق الكريم فيتنازلون عنه لانه “ مستحيل عملياً “. ويتفقون مع اسرائيل فى الدعوة إلى قرار جديد للأمم المتحدة، توافق عليه اسرائيل بالطبع، يدعو إلى الغاء قرار 194 الذى يكفل حق العودة.
وأين حل مشكلة اللاجئين؟ الحل هو فى الضغط على الدول المضيفة لكى توطن كل منها ما لديها من اللاجئين. وبذلك تصبح المخيمات وطناً يهتف له الطلاب صباح كل يوم ويفدونه” بالروح والدم “. وإذا رفضت هذه الدول فالحل جاهز أيضا، كما فصّلته المحامية اليهودية الامريكية التى كافحت لتوطين اليهود الروس فى اسرائيل والمعروفة باسم دونا آرزت. الحل الذى اقترحته وتبناه المجلس الامريكي للعلاقات الخارجية، وطاف به على الدول العربية لإقناعها به هو: توطين اللاجئين فى أي مكان فى العالم عدا وطنهم.وهكذا، استبدلت هذه المحامية اليهودية قطارات النازية التى كانت تحمل اليهود إلى المحرقة بطائرات حديثة تحمل هؤلاء اللاجئين إلى آلاسكا واستراليا حيث مثواهم الأخير.
من نافل القول أن هذه الأفكار، مثل سابقاتها من مشاريع التوطين، قد باءت كلها بالفشل. إن الشعب الذى دفع خمسين سنة من عمره فى الشتات والحروب والاضطهاد لا يمكن أن يموت أو يندثر.
وإن الطفل اللاجىء من الجيل الثالث، الذى يجيب إنه من قرية كذا فى فلسطين إذا سئل عن أصله، لن يتخلى عن حقه فى العودة إلى الوطن.