" وتعرج الطريق بين الجبال وبدا لى بهاء الجليل فى أروع صوره، فى ابتسامته القرمزية، وخضرته الناعمة. لم أره من قبل مثل ذلك. كان مفعماً بالحياة. قطعان الماشية تصعد الجبال وتهبط إلى الوديان، أجراسها تدق، والرعاة خلفها، يغنون ويصيحون، كشخوص من الماضى السحيق. والأن، ساد صمت رهيب على هذه الجبال، تنبعث خيوطه من قرية خالية. قرية خالية ! ما أفظع هذا ! حياة تجمدت، تحولت إلى همسات فى الريح، إلى طابون انطفأت ناره، إلى مرآة مكسورة، إلى كومة من التين المجفف فى الشمس، إلى كلب نحيل يمشى وحيداً فى الطرقات الخالية. وفجأة انبعث من داخلى شعور عميق الجذور، الشعور بالنصر، الشعور بالسيطرة، الشعوربالإنتقام. ورأيت هذه البيوت الفارغة خير مكان لاستقبال أخوتى اليهود الذين تشردوا من جيل إلى جيل ". من مذكرات يوسف وايتز، مسئول الاراضى فى الصندوق القومى اليهودى، وأول رئيس للجنة الترانسفير (الترحيل)، بعد جولته فى القرى المهجرة أواخر عام 1948
لا يوجد في التاريخ الحديث مثل آخر مثل نكبة فلسطين على غزو أقلية أجنبية لأغلبية وطنية وطردها من ديارها التاريخية، وإزالة آثارها العمرانية والثقافية، في عملية منظمة بدأت منذ خمسين عاماً ولاتزال مستمرة، بدعم مالي وعسكري وسياسي من الغرب، وفي نفس الوقت الإعلان عن هذه الجريمة الشنيعة باعتبارها انتصار للحضارة الغربية على التخلف ومعجزة إلهية فريدة انتصر فيها الحق بعد طول انتظار.
وبينما نجح عالمنا خلال القرن الماضى في التخلص إلي حد كبير من شرور الاستعمار والفاشية والنازية والفصل العنصري (الابرتهايد)، وتحرر ملايين الناس من ربقة هذه العبودية، يبقى أهل فلسطين الشعب الوحيد في القرن الواحد والعشرين الذى لاتزال تمارس عليه كثير من هذه الشرور مجتمعة.
ومنذ أكثر من نصف قرن عند إنشاء الأمم المتحدة خلفاً لعصبة الأمم، لم يحدث قط أن استُغلت هذه الهيئة الدولية كغطاء لتسليم السيادة في موطن شعب إلي أقلية مهاجرة، لكى تقيم عليه دولتها التي يستثنى منها مواطنو تلك الأرض، مثلما حدث في فلسطين. ولم يحدث قط أن خرقت دولةُ المواثيق والقرارات الدولية بنفس التكرار والاستمرار والتحدى للمجتمع الدولى مثلما فعلت إسرائيل، تلك الدولة المدينة أصلاً للأمم المتحدة بغطاء شرعيتها.
ما العامل المشترك الأعظم في كل هذه الأحداث؟ أن هناك قوة غربية خارجية تمد تلك الدولة المزروعة بكل أنواع الدعم. ولايهمنا هنا إن كانت اسرائيل تتقمص روح الغرب وتسيّره على أهدافها، أو العكس، فالنتيجة واحدة.
مقابل هذا، نجد أن الغالبية الساحقة للدول غير الغربية في المجتمع الدولى، وهى على كثرتها ضعيفة عسكرياً واقتصادياً، متمسكة بمبادئ العدالة والقانون الدولى،و تؤيدها بإصرار ودون كلل. هذه هى المعادلة إذن: شعوب الأرض الضعيفة تقف مع الحق، والقلة القوية من الدول تقف مع الباطل أو على الأقل لاتعمل شيئاً لإزالته. من هنا فإن البعد الدولى لقضية فلسطين يظل من أهم العوامل المؤثرة على مصيرها.
طرد اللاجئين شرط لقيام اسرائيل
الكونت فولك برنادوت واحد من النبلاء السويديين، قام بأعمال انسانية في الحرب العالمية الثانية، اثناء عمله في الصليب الأحمر الدولى، ومن بين مآثره إنقاذ اليهود من الالمان، ثم اختارته الأمم المتحدة ليكون الوسيط الدولى لحل قضية فلسطين بعد أن أتضح أن مشروع تقسيم فلسطين (قرار 181) غير ممكن التطبيق. عندما وصل إلي فلسطين في منتصف عام 1948، وجد أن القوات اليهودية،، نجحت في طرد أهالى 213 قرية ومدينة من ديارهم،و عددهم 000ر414دون تدخل من القوات البريطانية في فلسطين والقوات العربية خارجها، أى أن أكثر من نصف اللاجئين أصبحوا كذلك وهم تحت الحماية البريطانية وقبل تدخل العرب لإنقاذهم. بعد شهر من وجوده في فلسطين، أى في يونيو 1948، تبّينت لبرنا دوت حقيقة المأساة في فلسطين.لقد شاهد بنفسه مئات الآلاف من اللاجئين المطرودين من قراهم، وفي نفس الشهر قرر بن جوريون إعلان ما كان يخطط له طوال السنوات السابقة: لاعودة للاجئين. وبمعنى آخر أصبحت عملية التنظيف العرقي سياسة اسرائيلية رسمية معلنة. وفي أغسطس، بعد شهر من طرد 60,000 من أهالى اللد والرملة، وصل برنادوت إلي قناعة تامة بأنه لن يكون هناك سلام في فلسطين دون عودة اللاجئين. وكتب آخر تقرير له في سبتمبر قبل اغتياله في 1948/9/17، هذا التقرير الذى أصبح الوصية الرسمية للأمم المتحدة والتى كونت القرار الشهير رقم 194 في 11 ديسمبر 1948.
لقد تكونت خطة بن جوريون للتنظيف العرقى في فلسطين من ثلاث خطوات : الأولى بدأت سرية في ابريل 1948، وأصبحت سياسة رسمية للحكومة في يونيه في يونيه 1948، وهى الرفض القاطع لعودة اللاجئين بأى شكل وتحت أى ذريعة، وأصدرت الحكومة الاوامر بإطلاق الرصاص فوراً على من يعود إلى بيته، وأطلقت على هؤلاء صفة " المتسللين ".
والثانية: إزالة الآثار العمرانية بهدم القرى وحرق المحاصيل ونزع الآلات من البيارات حتى لايجد اللاجئون مكاناً يعودون إليه. وقد بدأت حملة التدمير في صيف 1948 على أيدى جهات متعددة حتى منتصف الخمسينات، وبعد فترة توقف تسلمت إدارة اسرائيل للأراضي هذه المهمة وأتمت ما تستطيع إتمامه حتى عام 1966.
والثالثة: استيراد مهاجرين جدد لإحلالهم محل اللاجئين المطرودين، وقد بدأوا في الوصول حال إعلان الدولة فوصل في 1948 مائة ألف وعام 1949 مائتان وأربعون ألفاً وعام 1950 مائة وسبعون ألفا ومثلها عام 1951 أى ما مجموعه حوالى 700,000 مهاجر. وسكن هؤلاء أولاً في البيوت العربية التي استوعبت في البداية حوالى ثلث مليون شخص، لكن هذا الوضع تغير، وهجر بعضهم القرى ونقل المهاجرون إلى أماكن جديدة وبقى المهاجرون في المدن.
أسوق هذه التفاصيل لأبين عمق المأساة التى حفزت برنادوت والمجتمع الدولى ورائه إلى اعتبار عودة اللاجئين أساساً للسلام من جهة، ولكى أبين كيف كشفت هذه المأساة عن إقرار بن جوريون لسياسة التنظيف العرقى كسياسة رسمية لاسرائيل ورفضه لعودة اللاجئين من جهة أخرى.لكن المأساة الأكبر أن هذين الوضعين المتناقضين لا يزالان قائمين اليوم كما هما دون تغيير، فلا اللاجئون استطاعوا العودة، ولا اسرائيل استطاعت القضاء عليهم، ولكنها استطاعت الاستيلاء على أرضهم وممتلكاتهم في أكبر عملية نهب منظمة في التاريخ.
القرار 194
اليوم يوجد 5,250,000 لاجئ فلسطينى منهم حوالى 4 مليون مسجلون لدى الانروا، منهم 46% داخل فلسطين التاريخية،و 42% في إطار محيط فلسطين في الاردن وسوريا ولبنان. والباقى 12%، نصفهم في البلاد العربية والنصف الآخر في بلاد أجنبية. هؤلاء اللاجئين طردوا من 531 قرية ومدينة، وأرضهم التي تساوى 92% من مساحة اسرائيل، صادرتها اسرائيل وإقامت عليها دولتها.
أود التذكير بأن القرار 194 هو في الواقع 3 قرارات في آن واحد، أولها وجوب عودة اللاجئين إلي ديارهم، وثانيها تقديم المساعدة لهم إلى أن يتم ذلك، وهذا سبب إنشاء الاونروا، وثالثها انشاء آلية لتنفيذ العودة وهذه الآلية هى هيئة التوفيق لفلسطين.
هذا المبدأ الاساسى، عودة اللاجئين، أكد عليه المجتمع الدولى أكثر من 135 مرة حتى عام 2000 خلال 52 سنة في إجماع دولى منقطع النظير . كما أن حق العودة حق شخصى نابع من ميثاق حقوق الإنسان وحرمة الملكية الخاصة، وهو لا ينقضى بالتقادم، ولاتجوز فيه الإنابة أو التمثيل عنه. كما أن حق العودة هو حق جماعى نابع من حق تقرير المصير.
وقد أكدت الأمم المتحدة على قرار 194 في عدة صور. منها أن الفلسطينيين هم الشعب الوحيد في العالم الذى اختُص بهم هذا القرار، ولهذا السبب فإنهم استثنوا من معاملتهم كمهاجرين لاسباب دينية أو عرقية أو سياسية، يلزم ايوائهم وتوطينهم كما هو الحال في ميثاق معاملة اللاجئين الذى يشرف عليه المفوض العام للاجئين.
وخلافاً لما تدعى اسرائيل، كان العرب في مباحثات لوزان 1949-1951 مستعدين للاعتراف باسرائيل، بل وقد أُرفقت خريطة التقسيم ببروتوكول لوزان، ولكن العرب أصروا على شرط عودة اللاجئين إلى ديارهم أولاً . ومن المعروف أنه ليس هناك تعارض بين عودة اللاجئين إلى ديارهم وقرار التقسيم رقم 181، فهذا القرار يقضى بأحقية كل مواطن في العيش في بيته المعتاد ويضع الضوابط لمنع التمييز العنصرى أو الدينى على أى مواطن. أى أن قرار التقسيم يرفض أى إزاحة أو طرد للسكان، ولكنه يوافق على بسط سيادة دولة عربية أو يهودية على المكان المخصص لها، بحيث يبقى كل مواطن في بيته.
لقد نجح بن جوريون في إفشال مباحثات لوزان، لأنه كان يعلم أن نجاحها معناه عودة اللاجئين واسترجاع بعض الاراضى المحتلة . ولذلك بدأت اسرائيل خطة مضادة، لاتزال تعمل بها حتى اليوم. طالما بقى اللاجئون ظاهرين للعيان، وبقى إصرارهم على العودة، تبقى المشكلة قائمة. ولذلك من الضرورى التخطيط للتخلص منهم. ومن هنا بدأت مشاريع التوطين، ولاتزال، تطفو على السطح كالطحالب من وقت لآخر، دون أن تحقق أى نجاح يذكر. وفي نفس الوقت قامت اسرائيل بإقامة العوائق الفعلية تجاه عودة اللاجئين بأن قامت في الفترة 1948-1954 بتدمير معظم القرى الفلسطينية وأبقت على المدن دون السماح لمن بقى فيها من الفلسطينيين بإصلاحها أو تطويرها.
مشاريع التوطين
أول مشروع توطين صدر عام 1949 عن المعهد الملكى للشؤن الدولية في لندن. اقترحت مؤلفته سيبلا ثكنس توطين اللاجئين في سوريا والعراق وليس في لبنان. وفي عام 1954 جاءت بعثة جونستون لتقترح توزيع المياه العربية في نهر الأردن واليرموك بين العرب واسرائيل، ومن بين أهداف البعثة تخصيص حصة للأردن في المياه مع مساعدات مالية لتوطين اللاجئين في مناطقها الشماليةو الشرقية.
لكن حمى مشاريع التوطين تسارعت بعدحرب 1967، عندما تزايد عدد اللاجئين وتضاعفت مساحة الأرض العربية المحتلة. وبدل أن يؤدى تزايد حجم المشكلة إلى السعى الحثيث لايجاد حل جذرى لها، ظهرت عشرات الدراسات الموجهة لاقتراح التوطين تحت غطاء الانسانية والسلام والتعاون الاقليمى. وبينما أحجمت اسرائيل في الفترة من 1948 - 1967 عن القيام بأعمال تطوير جذرية في المناطق المخصصة لدولة فلسطينية، بدأت بعد ذلك سن القوانين واتخاذ الاجراءات الفعلية للاستيلاء على أراضى اللاجئين وتوطين اليهود فيها في مستعمرات الكيبوتز.
وفي نفس الوقت قامت معاهد دراسية اسرائيلية، أو امريكية يديرها يهود ، باستنباط مشاريع توطين من أصناف عدة، ولكنها كلها تعتمد على المبادئ الآتية:
الفلسطينيون ليسوا شعباً مثل باقى الشعوب، هم جماعة من العرب يستطيعون العيش في أى مكان من بلاد العرب، هم ليسوا حضاريين ولم يعرفوا كيف يدافعوا عن فلسطين ولذلك فهم لا يستحقونها مثلنا. لاتوجد بلد إسمها فلسطين. لقد خرجوا من فلسطين بأوامر عربية، ولذلك على العرب ايوائهم وتوطينهم. نحن مستعدون للمشاركة بكثير من الاوامر وقليل من المال في توطينهم في الخارج، وذلك لأسباب إنسانية بحتة، إذ لا توجد علينا أى مسئولية في ذلك. لايمكن استتباب السلام في المنطقة دون التخلص من مشكلة اللاجئين.
لا يوجد مشروع للتوطين لايعتمد على هذه المبادئ الاسرائيلية بصورة أو أخرى. دون بيريتز، الكاتب الامريكى اليهودى الذى عاش في اسرائيل عام 1949، يدعو إلي توطين اللاجئين في بلاد عربية، مع عودة رمزية للقلة. مارك هيللر الباحث الاسرائيلى في معهد جافى والليكودى النـزعة يقترح عودة ربع اللاجئين إلي الضفة وغزة وليس إلى بيوتهم. شلومو جازيت " الخبير " الاسرائيلى في اللاجئينو أول حاكم للضفة الغربية بعد الاحتلال والرئيس السابق للمخابرات العسكرية ، لديه مشروع متكامل " للحل النهائى " لمشكلة اللاجئين، عناصره كالآتى: اعتذار اسرائيل عن النكبة في قرار دولى يلغى قرار 194، إلغاء صفة اللاجئ ووكالة الاونروا وحق العودة إلغاءاً نهائياً، وتعويض اللاجئين تعويضاً تشرف عليه إسرائيل وتدفع قيمته اوروبا والدول العربية.
إن كثرة مشروعات التوطين لا تتناسب مع الفشل الذريع الذى لاقته كل هذه المشاريع. وهذا النشاط المحموم يدل على درجة اليأس والقلق الذى تعانيه اسرائيل من عدم وجود حل يرضيها، ولأن اسرائيل والعرب والعالم يتفقون على شأن واحد فيما يخص اللاجئين: أنه لايمكن أن يسود السلام في المنطقة دون حل مشكلة اللاجئين حلاً نهائياً، ولكنهم يختلفون على طريقة الحل.
خطة التنظيف العرقى
آخر طبعة من مشاريع التوطين أخرجتها المحامية اليهودية الامريكية من أصل روسى دونا آرزت في كتابها " من لاجئين إلي مواطنين "، الذى نشره مجلس العلاقات الخارجية (الأمريكى) . بعد أن تعرب آرزت عن ألمها لمعاناة الفلسطينيين، تتفرغ للمهمة الأساسية وهى توزيعهم على بلاد العالم ( انظر جدول 1 ). فهي تقترح نقل 690,000 لاجئ من غزة إلي الضفة،و 140,000 من الاردن إلى الضفة بحيث يصبح المجموع 830,000. وتتجاهل آرزت عودة النازحين من الاردن. ( ليس للنازحين أى معنى قانونى إلا إذا اعترفنا باحتلال اسرائيل للضفة الغربية. إذ بدون الاحتلال، يحق لكل مواطن أو لاجئ التنقل بين ضفتى الاردن، كما ينتقل المصري بين القاهرة والإسكندرية ). وتقترح آرزت ترحيل 400,000 من لبنان.و بذلك يصل مجموع المرحّلين ( ترانسفير ) في خطة آرزت إلي 5ر1 مليون لاجئ، مما يحتاج إلي عدد كبير من الباصات والقطارات ! كما تقترح أن توطن سوريا والأردن اللاجئين لديها. لايمكن وصف خطة آرزت بأقل من كونها خطة " تنظيف عرقي " يعاقب عليها القانون الدولى. ولا تختلف هذه الخطة عن خطة ألمانيا النازية لتنفيذ " الحل النهائي " للخلاص من اليهود بشحنهم في قطارات تأخذهم إلي هلاكم.
وفي مارس 1997، زار وفد من مجلس العلاقات الخارجية ومن مجلس النواب الامريكى عدداً من دول الخليج، واقترح على كل منها توطين 35,000 فلسطيني سنوياً في كل دولة لمدة عشر سنوات. وحاصل ضرب هذه الأرقام يبلغ 2مليون شخص المطلوب توطينهم، وهو رقم مطابق لخطة آرزت.
وقد أصدر مجلس الجامعة العربية في 1997/12/30 (الدورة 107) قراراً برفض التوطين، والتأكيد على تطبيق حق العودة بموجب القرار 194 وإحياء هيئة التوفيق في فلسطين.
وفي يونيه 2000، ذكرت تقارير صحفية أن السلطة الفلسطينية طلبت مبالغ مالية كبيرة من الدول الأوروبية لتأهيل عودة 000ر800 لاجئ إلي اراضى السلطة، وقال محمد رشيد ( خالد سلام) ان هذه المبالغ لمشاريع التنمية اللازمة لاستيعاب هؤلاء . ومما يلفت النظر أن عدد اللاجئين المذكور يطابق خطة آرزت. والجدير بالذكر أن هؤلاء المرحلين منقولون من منطقة عربية إلي أخرى، وليسوا عائدون إلي ديارهم.
ومن عجائب الأمور أن ينضم إلي موكب ترحيل اللاجئين وتوطينهم نفر يقل عن أصابع اليد الواحدة من الفلسطينيين، يؤيد خطط التوطين من منطلق " الواقعية ".
كتب أحدهم مقالاً يقرر فيه أن العودة "مستحيلة " وأنه يكفى أن يعتذر الاسرائيليون عن معاناة الفلسطينيين النفسية.و قد اشترك هذا الكاتب، بناء على طلب أبو مازن، في محادثات " سرية " مع إسرائيليين حول تسوية نهائية لقضية اللاجئين. وكتب آخر أنه لامناص من الاعتراف بالحقوق الفلسطينية اعترافاً مطلقاً لامراء فيه،و لكن عند تطبيق هذه الحقوق يجب على الفلسطينيين الاعتراف بأن العودة "مستحيلة "، حسب النظرية الاسرائيلية، إذ لم تبق قرى للعودة إليها، ولم يعد هناك ريف يعودون إليه، فالصناعة طغت على كل ذلك. وأن عودة اللاجئين ستقلب الميزان الديموغرافى لغير صالح اليهود وأنه في مقياس المأساة، لايمكن مقارنة الهولوكوست اليهودى في المانيا بالنكبة الفلسطينية، فالأولى أعظم وأكبر وأكثر هولاً. وأنه ليس أمام الفلسطينيين من حل إلا القبول بالتعويض والعودة إلي مناطق السلطة (إن سمحت اسرائيل) وتوطين اللاجئين حيث هم.
وسنأتى فيما بعد على تفنيد الادعاءات الاسرائيلية بأن العودة " مستحيلة " عملياً. لكننا نلاحظ في الكتابات الفلسطينية المذكورة أعلاه نغمة تصالحية، تسعى للسلام ولوعلى حساب إسقاط الحقوق غير القابلة للتصرف.
من لاجئين إلى شعب
لكن أهم تطور حدث بعد حرب 1967 هو قيام حركة الفدائيين التي تحولت إلي حركة مقاومة شعبية، كسبت بسرعة انتباه الرأى العام العالمى، وتعاطف الأمة العربيةو التأييد الفاتر من بعض الحكومات العربية. وبعد ذلك بسبع سنوات، أقرت الأمم المتحدة الحقوق الفلسطينية بشكل واضح لالبس فيه.
جاء في قرار الأمم المتحدة رقم 3236 الصادر في 1974/11/22 التأكيد على حقوق "الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف" (لاحظ تعبير: الشعب الفلسطينى، الحقوق غير قابلة للتصرف) ومنها حقه في تقرير المصير، وحقه في الاستقلال الوطنى والسيادة، وحقه في العودة إلي أرضه التي طرد منها عام 1948 وأكد القرار أن هذه الحقوق لابد من تحقيقها لحل قضية فلسطين، وأن على الدول والهيئات الدولية تقديم العون للشعب الفلسطينى في كفاحه لاسترجاع هذه الحقوق.
كان هذا قراراً حاسماً واضحاً جمع كل الحقوق الفلسطينيةو أكد عليها. ولم تعد قضية اللاجئين بعد ذلك قضية أناس مشردين، فهم شعب له حقوق وعلى العالم واجب مساعدتهم (بما في ذلك عسكرياً في نطاق ميثاق الأمم المتحدة).
انتهز بعض القانونيين الاسرائيليين فرصة صدور هذا القرارللأنتقاص منه بالقول أن الحق "الفردى " في العودة قد سقط الآن بإقرار حق تقرير المصير وهو حق جماعي ينطبق على المناطق التي تبسط عليها الدولة الفلسطينية الجديدة سيادتها. وحيث أن هذه المناطق (إذا ما وافقت القيادة الفلسطينية على إعلان الدولة في تلك المناطق) هى اجزاء من الضفة وغزة، فإن العودة تكون إلي هذه المناطق، وليس إلي ديار اللاجئين الأصلية عام 1948.
ويرد خبير القانون الدولى جون كويجلى بأن هذا غير صحيح، لأن حق العودة من حقوق الانسان التي لاتسقط بأى قرار سياسى. كما أن الأمم المتحدة استمرت في تأكيد القرار 194 حتى بعد تأكيد حق تقرير المصير، وبعد قرار 242 الخاص بإزالة آثار احتلال 1967، وبعد اتفاق اوسلو. وقبل عام واحد، في ديسمبر 1999، صدر القرار رقم 75/54 بحق اللاجئين في العودة إلي ديارهم، بل وحقهم في الحصول على الدخل من ممتلكاتهم التي استغلت خلال 52 عاماً،و أكد القرار واجب كل الدول أن تقدم ما لديها من معلومات ووثائقو خرائط عن هذه الممتلكات.
إنحسار المقاومة
ابتداء من عام 1982 بدأ انحسار فعالية المقاومة الفلسطينية، وإفراغ محتواها العسكرى، واستمرت في تدهور حتى اليوم. ولكن لايوجد دليل منطقى أو تاريخى أن هذا الأنحسار دائم.
تميزت المقاومة بعنصرين هامين متناقضين:
الحماس المنقطع النظير لمحاربة العدو والشجاعة المطلقة في مواجهته حتى في مواقف ميئوس منها والمدد الغزير للعناصر البشرية التي كانت مستعدة للتضحية. كان المعنى والمحتوى للمقاومة الفلسطينية وما صاحبه من الصدى الشعبى والعالمى من أهم المكاسب التي حصل عليها الفلسطينيون، وهو ما عبرت عنه روزمارى صايغ في كتابها: "من فلاحين إلي ثوار ". لقد تميزّ هذا الصراع من أجل الوجود بشراسة المقاتلين عن أرضهم التي طردوا منها،و أرضهم هذه هى مثوى الأجداد ومصدر العيشو أمل المستقبل بالمعنى الحرفى للكلمة.
الإدارة العشوائية لحركة المقاومة التي كانت تتميز بعدم الكفاءةو العفوية في إتخاذ القرارات. وإن كان هذا مقبولاً من حركة شعبية خصوصاً في بدايتها إلا أنه غير مقبول بعد نضوج الحركة، وترحيب الشعوب العربية بها حيث تواجدت،(رغم التأييد الحذر من الحكومات)، والحصول على دعم مالى منقطع النظير لم يتوفر لأى حركة شعبية (باستثناء حركة الاستيطان الصهيونى)، وتوفر قطاع بشرى هائل من الكفاءات الفلسطينية التي لم تستغل بسبب تفضيل الولاء والطاعة على الكفاءةو الديموقراطية. لقد فشلت قيادة المقاومة فيما يسمى بإدارة الأزمات، ولم تستفد فعلياً من الخسائر البشرية للمقاتلين والمدنيين، بالاضافة إلى خسائر سياسية ومادية عظيمة القيمة. وتسبب هذا في خسارة الفلسطينيين لأرصدتهم المعنوية والمادية في الاردن ولبنان والكويت.
يجب الاعتراف بأنه من الصعب على أى حركة مقاومة أن تعمل في بلد غير بلدها، وأن المقاومة الفلسطينية ليست على المستوى العسكرى لاسرائيل بالمعنى التقليدى، لكن اداء المقاومة في الساحة العربية كان أقل كفاءة بكثير من الممكن. وكان اهتمامها بالإعلام وحشد التأييد أكثر بكثير من الحصول على مكاسب فعلية في الميدان أو بناء مؤسسات فلسطينية كفئة لبناء المجتمع الفلسطينى اثناء الحرب وبعده. وهذا ما ظهرت آثاره واضحة جلية عند استلام السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في غزة والضفة.
الدخول إلى قفص أوسلو
هذه النبذة ضرورية لايضاح تأثير ذلك على حقوق اللاجئين. فعندما انتهى التأثير الايجابى للعنصر الأول: بسالة المقاومة من ناحية بشرية، بقى التأثير السلبى للعنصر الثانى: إدارة الأزمات. فما أن جاءت حرب الخليج بنتائجها المعروفة، ووجدت القيادة الفلسطينية أنها لاتملك القوة العسكرية، حتى بمعناها الشعبي، ولاتملك الدعم المالي الذى نضب بسبب مواقفها، ولاتملك المؤسسات الفلسطينية الكفئة التي تخلى عنها كثير من المخلصين أو هى تخلت عنهم، لم يبق لها من مصادر القوة شئ. ولذلك وقعت فريسة سهلة، بل فريسة راضية بالذهاب إلي قفص أوسلو. لقد سعت اتفاقية أوسلو إلي إزالة القاعدة الوحيدة الباقية للحقوق الفلسطينية وهى الشرعية الدولية المتمثلة في المواثيق الدولية والقانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة.
وليس هناك أبلغ من مقدمة الاتفاقية للتدليل على ذلك: " تقر حكومة دولة اسرائيل والوفد الفلسطيني الذى يمثل الشعب الفلسطيني على أنه حان الوقت لإنهاء عقود من المواجهة والصراع، وللاعتراف بحقوقهم الشرعية والسياسية المتبادلة، والعمل الحثيث على التعايش بسلام وكرامة متبادلة وأمان وتحقيق تسوية سلام عادلة وشاملة ودائمة، ومصالحة تاريخية بواسطة العملية السياسية المتفق عليها ".
لقد أقر الطرف الفلسطيني مع نظيره الاسرائيلي في هذ القضية " إنهاء الصراع " وهو ما تسعى إليه اسرائيل منذ عقود، وذلك بشطب المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة واستبدالها بما ينتج في تلك " العملية السياسية المتفق عليها " بين طرفين أحدهما يملك القوة والأرض ولايملك القانون، والآخر لايملك القوة ويطالب بالأرض وتخلى عن القانون.
إذن ليس من المستغرب أن تؤول مفاوضات أوسلو وما تلاها من التفرعات والمسلسلات إلي ماهى عليه اليوم. وهذا ليس استناداً على دروس الماضى القريب، بل كان واضحاً لكثير من الناس عند إعلان اتفاقية أوسلو.
والسؤال الآن: ماهى قيمة اتفاقات أوسلو أو ما يتبعها بالنسبة لحقوق اللاجئين في العودة والتعويض؟
الجواب هو أن الحق الفردى في العودة والتعويض لا يسقط في أى اتفاق سياسي ولاتجوز فيه النيابة سواء كانت معتمدة أم لا. أما الحق الجماعى فهو يخضع إلي السيادة التي منحت تطبيقاً لحق تقرير المصير في المناطق الخاضعة لتلك السيادة.
وحيث أن مواطن اللاجئين تقع في اسرائيل التي تعترف بها السلطة الفلسطينية، فإن اتفاق أوسلو لا يعني اللاجئين في شيء. ولو أجبرت السلطة اللاجئين في مناطقها ( وهذا غير متوقع، وغير ممكن) على قبول حل بالتنازل عن حقوقهم، فهو غير قانونى بالطبع، وهو يترك 71% من اللاجئين الذين يعيشون خارج مناطق السلطة وخارج نفوذها أحراراً للدفاع عن حقوقهم كما يشاءؤن.
كما سبق القول، تكاثرت ظاهرة مشاريع التوطين بعد أوسلو، لأن هذا كان المناخ المناسب لنموها. وتزامنت هذه الظاهرة بنشوء ماسمى " بصناعة السلام " حيث تدعم جهات مختلفة بالمال والإعلام أفراداً ومؤسسات وجمعيات أهلية تدعو إلي السلام والواقعية بمعنى إسقاط الحقوق الأساسية والقبول بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وكما سبق ذكره فأنه هذه الإطروحات لا تنفى الإقرار بحق العودة كحق ثابت لاجدال فيه، إلا إنها تدعى أن تطبيقه يخضع لصعوبات عملية، وعليه يجب إسقاطه كلية.
هل العودة مستحيلة
ما هى هذه الصعوبات العملية؟ لم أجد في أبحاث هؤلاء الذين يسّوقون ذلك أية دراسة جدية لهذه الصعوبات. يقولون أن القرى دمرت والحدود ضاعت ويصعب الآن إرجاع الوضع إلى ماكان عليه وهذا خطل فى القول. لايوجد مثيل لفلسطين بين البلاد العربية في دقة التوثيق وشموله، منذ حملة نابليون عام 1799 وخلال القرن التاسع عشر حتى اليوم. وخرائط الانتداب البريطاني تحتوى على 000ر100 إسم لكل مكان وكرم وخلّة ومقام ومسجد وكنيسة ونهر وبئر ونبع.
كما تحتوى السجلات على 000ر450 سجل لمالكى الأرض، لاتزال موجودة في الأمم المتحدة. وبواسطة التقنية الحديثة يمكن إسترجاع أصل كل دنم، كيف كان وما هو عليه الآن. بل إن دائرة اسرائيل للاراضى تؤجر أراضى اللاجئين إلي الكيبوتس بموجب هذه المعلومات، ولديها تاريخ كل قطعة أرض. إذن هذه المقولة باطلة.
ويقولون أيضاً أن البلاد لاتسع العائدين، فقد احتل اليهود المهاجرون كل بقعة منها. لكن الدراسات الديموغرافيه تكذب ذلك .
يمكن تقسيم اسرائيل إلي 3 مناطق: (أنظر شكل رقم 1) منطقة (أ) ومساحتها 1,683 كم2، وتساوى مساحة الأرض اليهودية عام 1948، ويعيش فيها 68% من اليهود.
منطقة (ب) ومساحتها 318ر1 كم 2 وتساوى تقريباً مساحة أرض الفلسطينيين الذى بقوا في اسرائيل، ويعيش فيها 10% من اليهود و20% من الفلسطينيين هناك.
أى أن 78% من اليهود يعيشون في 14% من مساحة اسرائيل. (ولو أخذنا المناطق الحضرية المدينية فقط في اسرائيل لوجدنا أن مساحتها 2,364 كم2، أو 11% من مساحة اسرائيل ويعيش فيها 90% من كافة السكان).
أما منطقة (ج) ومساحتها 17,325 كم2 وهى وطن اللاجئين وإرثهم التاريخى، فيعيش فيها 22% من اليهود. منهم 19% يسكنون في مدن فلسطينية أصلاً ومدن " تطوير " جديدة لايزيد عدد سكان الواحدة منها عن سكان مخيم للاجئين. وهذا يعنى أن 160,000 يهودى من سكان الكيبوتز هم الذين يستغلون كافة الأرض الفلسطينية.
وباعتبار سكان الكيبوتز نخبة المجتمع، ونسبتهم في الجيش والكنيست أعلى من المعدل العام، تغدق عليهم الحكومة المساعدات والهبات. تستهلك الزراعة 75% من المياه في اسرائيل، وتوصل الحكومة هذه المياه إلي الكيبوتس بسعر أقل من سعر الانتاج، بل وتعوضهم مادياً إذا ما أضطرت لتقليل كمية مياه الرى، ومع ذلك، فإن 26% من هذه المستعمرات تنتج معظم الأنتاج والباقى مفلس ومثقل بالديون.و قد قررت الحكومة إسقاط 5بليون دولار من ديون الكيبوتس بجدولة 2بليون، واعطاء معونة بمبلغ 2بليون من الحكومة وبليون واحد من القطاع الخاص. كل هذا الإسراف في استعمال الأرض والمياه، وكل هذا الدعم المالى، لم يساهم في الناتج الاسرائيلى المحلى بأكثر من 1,8% فقط. وبذلك فإن الكيبوتز قد أفلس اقتصادياً، وهجره الكثيرون عائدون إلى المدن. وتلجأ إسرائيل إلى بيع أراضي اللاجئين لليهود حتى لو لم يكونوا إسرائيليين. وهذا أخطر تطور يهدد الحقوق الفلسطينية في أرض فلسطين منذ عام النكبة .
إذن لو عاد اللاجئون إلى ديارهم فإنه لن يتأثر أحد من اليهود عدا هذه الفئة المسرفة المدللة قليلة الانتاج. بل لو عاد اللاجئون في لبنان إلي الجليل، ولو عاد اللاجئون في غزة إلي اللواء الجنوبى، لما تأثرت كثافة السكان اليهود في الوسط بأكثر من 1%. ومن المفارقات المؤسفة أن مجموع لاجيء غزة ولبنان يساوى بالضبط عدد المهاجرين الروس الذى تدفقوا على اسرائيل ليعيشوا في بيوت هؤلاء اللاجئين. ولم نسمع من أحد أن البلاد مكتظة بالسكان وليس فيها مكان لعائد إلى بيته. وكما سبق الإشارة إليه، فإن منع عودة اللاجئين هو عملية تنظيف عرقى بدأت منذ خمسين سنة ولاتزال مستمرة إلى اليوم. وحجة عدم سعة البلاد حجة ساقطة فى حد ذاتها، ولو أن الفلسطينيين لا يحتاجون لإقناع أحد بذلك، فالحق في العودة والحق في الملكية الخاصة حق لا يسقط لآي سبب، حتى لو كانت البلاد مزدحمة فعلاً، فهذا لا يمنح محتل البيت حق ملكيته.
الطبيعة اليهودية لاسرائيل
ثم يقول الإسرائيليون إن عودة هؤلاء اللاجئين ستفسد الطبيعة اليهودية لاسرائيل. ونتساءل هنا: ماهو المقصود بهذه الطبيعة اليهودية التي يتوجب علينا وعلى الأمم المتحدة التمسك بها في وجه القوانين التي تمنع العنصريةو التنظيف العرقي؟ هل هى الحرية الدينية وممارسة الطقوس اليهودية؟ لا أعتقد أن أحد يجادل في ذلك. هل هى النسيج الاجتماعي الذى تتميز به إسرائيل؟ لايوجد شيء من هذا القبيل. إذ لا يمكن أن نتصور وجود علاقة اجتماعية بين يهود بروكلين ويهود المغرب، ولا علاقة اجتماعية بين اليهود الروس واليهود الأحباش، ولاعلاقة اجتماعية بين اليهود الهاريديمو الاشكناز العلمانيين، ولا علاقة اجتماعية أو حتى اقتصادية بين نخبة الاشكناز والطبقة المسحوقة من المزراحيم (الشرقيون). لقد هجرت اسرائيل منذ عهد بعيد فكرة إنصهار قبائلها في بوتقة واحدة، ولا يجمع هذه القبائل إلا اللغة العبرية، وهذه هى اللغة المستعملة يومياً لنصف الإسرائيليين فقط والباقون يتحدثون أكثر من 32 لغة. ولا يجمع هذه القبائل أيضاً إلا خدمة شبابهم في الجيش، وهو عامل الصهر الوحيد الباقى. وهو لايزال في غاية الأهمية رغم أن الرغبة في عدم الخدمة في الجيش قد تزايدت، خصوصاً وأن العامل الموحد: كراهية العرب، والهدف الموحد: الحفاظ على الوجود، قد فقدا كثيراً من بريقهما الإعلامي. في هذه الفسيفساء العجيبة، لايمكن القول أن وجود الفلسطينيين (في أرضهم) هو تلوث لهذه البيئة النقية، خصوصاً وأن الفلسطينيين اليوم تبلغ نسبتهم 26% من اليهود.
وتقول البروفيسورة عتصيونى هاليفى من جامعة بار إيلان في تل أبيب وهى التي تدرّس موضوع الهوية اليهودية منذ 30 عاماً "نحن لسنا شعباً واحداً، فاللغة مختلفة، والمظهر مختلف، وأنماط السلوك مختلفة، والهوية مختلفة". وتقول إن الشرخ في الهوية اليهودية آخذ في الاتساع في الأسرة والمجتمع، والمسئول عن ذلك هو " زعماء الدولة وقادة الأحزاب " ، ولاشك أنها تقصد التركيبة العنصرية للدولة التي لم تنجح في تكوين مجتمع اسرائيلى متجانس،و نفس الوقت تنكر على الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم، لئلا يخل ذلك بتركيبة هذا المجتمع، الذى هو مختل أصلاً وغير متجانس ولن يكون أبداً.
وهذا يأتى بنا إلي السؤال:هل المقصود بالطبيعة اليهودية هو الأغلبية العددية لليهود في فلسطين؟ إن كان هذا هو المقصود، فهو هدف زائل. إذ تدل الدراسات الديموغرافية أنه بعد 30 سنه سيتساوى عدد اليهود في اسرائيل مع الفلسطينيين فيها، هذا بفرض أن باب الهجرة لازال مفتوحاً ومرغوباً. والواقع أن الخزان اليهودى للهجرة قد قارب علي النضوب، فاليهود الباقون في الخارج يتمتعون بحياة من الرخاءو النفوذ ولا يريدون استبدالها، كما أن عددهم يتناقص بسبب الزيجات المختلطة التي هى بدورها علامة الاطمئنان والاستقرار في تلك البلاد. وماذا ستفعل اسرائيل عندما يتزايد عدد الفلسطينيين إلي هذا الحد؟ هل ستستمر في معاملتهم بنظام الفصل العنصرى كما كان في جنوب افريقيا؟ أم ستصنع لهم نكبة جديدة؟
واليوم تبلغ نسبة السكان العرب على أرض فلسطين التاريخية 47% واليهود 53%، وما هى إلا خمس سنوات حتى يتساوى الطرفان. وفي وجود دولة فلسطين أو عدمه، لابد من التواصل السكانى بين الطرفين في صورة ما، فأين هى الأغلبية العددية التي تسعى إليها اسرائيل إذن؟
الحقيقة أن كل هذه الحجج غرضها التمسك برقعة جغرافية، لكي تكون مخزوناً إستراتيجياً للمستقبل لاستقبال مهاجرين يهود جدد، تطبيقاً لعقيدة عنصرية هى فى طبيعتها مخالفة للقانون الدولى، بينما يتكدس أصحاب الأرض الشرعيين في مخيمات البؤس والشقاء. وقد تشترى هذه الحجج لاسرائيل برهة من الزمن، يدفع فيه الفلسطينيين الثمن من معاناتهم اثناء ذلك. وعندما تقتنع الصهيونية في المستقبل القريب أن كل هذه الاهداف كانت أهدافاً سرابية، يكون وقت المعاناة قد طال.وتصبح هذه خرافة اسرائيلية أخرى تضاف إلى قائمة الخرافاتو المزاعم التي بثتها اسرائيل طوال العقود الماضية، وقد ثبت زيفها كلها، ولكن بعد أن دفع الفلسطينيون ثمنهاو استلمت إسرائيل البضاعة.
خدعة التعويض الاسرائيلية
يقولون أيضاً أن الحل هو في التعويض، وهو ما تروّج له الدول الغربية بتحريض من اسرائيل، باعتباره عملاً سهلاًو انسانياً للخلاص من مشكلة اللاجئين إلى الأبد. وهذه خدعة أخرى يريدون أن يدفع ثمنها الفلسطينيون ويتمتعون هم بالأرض. ويكفى أن نستعرض الخطة الاسرائيلية لنرى معالم هذه الخدعة.
ترتكز الخطة الإسرائيلية للتعويض على الشروط الآتية :
الأول أن التعويض جزء من خطة تسوية عامة بموجبها يتم الاتفاق على القدس والمستوطنات والحدود والدولة، أى أن التعويض هو ثمن التسوية. والثانى أن دفع التعويض يتم على مراحل لإثبات حسن النية، فعند دفع أول مبلغ، يهدم أول مخيم وتشطب أول قائمة للاجئين و‘تحَل أول دائرة في الاونروا. والثالث أن اسرائيل لا تستطيع دفع كافة التعويضات لأن عليها التزامات إيواء المهاجرين الجدد الذين يحلّون محل اللاجئين، ولذلك فهى تطلب من امريكا وأوربا والعرب دفع هذه التعويضات. والرابع أن تكون اسرائيل عضواً مسيطراً في هيئة دولية ولها الحق في منح أو منع التعويض، وعلى اللاجئين تقديم أدلة تقبلها اسرائيل تثبت أن لهم ممتلكات. والخامس أن قيمة التعويض مبلغ مقطوع لايزيد وقد ينقص، ويدفع إلى جهة واحدة، يتقدم لها الأطراف بطلباتهم خلال مدة محدودة وإلا سقط حقهم. وهذا المبلغ يساوى 2% من القيمة المقدرة لهذه الممتلكات، ناقصاً المصاريف والرسوم التي ستتقاضاها اسرائيل. والسادس أن على السلطة الفلسطينية إلزام اللاجئين بقبول هذه الشروط، ويعتبر اللاجئ المعارض معادياً للسلام.
وهكذا تريد اسرائيل إقناع العالم، ثم العرب والسلطة بهذه الشروط. وهى بذلك تستولى على 92% من مساحتها وهى أرض فلسطينية، بموجب وثيقة قانونية وقّع عليها أصحاب الأرض الذين باعوها بثمن بخس تدفعه أوربا وغيرها، وتستلمها اسرائيل مجاناً، ومعها 1500 مليون متر مكعب مياه سنوياً، وثروات معدنية ومناطق حيوية. هذه صفقة ما بعدها صفقة. وهى أيضاً حلم من الأحلام التي لن تتحقق.
القانون الدولي يناقض بالطبع كل ما تدعيه إسرائيل. إذ أن التعويض هو لإصلاح الضرر "وإعادة الشيء إلي أصله " وهو اجراء تعاقدى بين الافراد المتضررين والمتسبب في الضرر، ولا تجوز فيه النيابة، ولا يسقط بالتقادم ولا بالصبغة السياسية للمتضرر. ويشمل التعويض البنود الأربعة الآتية: المنفعة المادية والمعنوية، الفردية والعامة، بالاضافة إلي جرائم الحرب، والجرائم ضد السلام والجرائم عند الإنسانية. ولذلك فإن اللاجئين يستحقون تعويضاً عن كل هذه الخسائر. ولكنهم لايدرجون فيها ثمن أراضيهم. فالوطن لايباع وإنما يسترجع بموجب حق العودة. والقلة التي تريد التخلى عن ممتلكاتها إنما تسلمها إلي جهة فلسطينية.
وتحتال إسرائيل على التخلص من حق التعويض بأن تربط بين تعويض الفلسطينيين وتعويض اليهود في البلاد العربية بان تبادل هذه بتلك، وتضخم تعويض اليهود حتى يصبح كل لاجئ مديناً لاسرائيل فوق فقدان بيته وأرضه. وقد أجمع خبراء القانون الدولى أن هذا الربط ليست له قيمة قانونية على الإطلاق. فالحدثان منفصلان في الزمان والمكان. والعلاقة القانونية قائمة بين المتضررو مسبب الضرر فقط. ولقد طرد الفلسطينيون من ديارهم بغرض محدد وهو إفساح المجال لاستبدالهم بمهاجرين. وعليه فالمهاجرون اليهود هم طرف مستفيد من أملاك الفلسطينيين وعليهم دفع التعويض بدل استلامه. ويستحق الفلسطينيون تعويضاً مباشراً من اسرائيل حسب القرار الدولى 194. وبينما توجد تشريعات دولية تؤكد حقوق الفلسطينيين، لا يوجد مثلها لصالح هؤلاء اليهود. وبإمكان هؤلاء اليهود، الذين خرجوا طوعاً من ديارهم أو بتحريض من عملاء الصهيونية، أن يتقدموا بطلباتهم مباشرة إلى الدول المعنية مطالبين باستعادة جنسيتهمو أملاكهم. والفلسطينيون ليسوا طرفاً في ذلك. وتأكيداً لهذا المفهوم، فقد تكونت فى اسرائيل جمعية من اليهود العراقيين برئاسة البروفسور يهودا شنهاف ترفض مقايضة أملاكهم بأملاك فلسطينية ويرفضون أن تسدد إسرائيل ثمن أملاكهم فى العراق من الأملاك الفلسطينية، ويقولون إن أملاكنا ليست ملكاً لدولة اسرائيل، وأملاك الفلسطينيين ليست ملكاً للدولة، فكيف تقايض الدولة بين هذه وتلك وتكسب الدولة الأملاك لنفسها، بينما نفقد نحنو الفلسطينيون أملاكنا. وقد اعترفت جمعيات اسرائيلية لليهود من بلاد عربية أن الغرض من مطالباتها هو إحباط مطالبات الفلسطينيين فقط.
وتعتقد بعض الدول أنها تستطيع الحصول على جزء من التعويضات المخصصة للاجئين كبديل عن تكاليف ايوائهم. وهؤلاء اللاجئون إما بقوا في تلك الدولة لاجئين أو أصبحوا مواطنين. في حالة الدولة التى تؤوى اللاجئين، يجيز القانون الدولى لتلك الدولة أن تطالب الدولة الطاردة لهم بالتعويض، لأن الأخيرة دفعت بهؤلاء اللاجئين إلي تلك الدولة المجاورة مخترقة بذلك سيادتها ومضيفة إليها اعباء جديدة لم تتحملها إلا لاسباب انسانية. أما إذا منحت تلك الدولة حق المواطنة للاجئين، فأنها تصبح مسئولة عنهم إعاشاً وتعليما وصحة بموجب عقد المواطنة بين الدولة والمواطن.و فى جميع الأحوال لا يجيز أى قانون اقتطاع أى مبلغ من حق التعويض الفردى للاجئين لما أصابهم من ضرر وخسائر ومعاناة فى بلد آخر هو فلسطين.
فشل الطروحات الدولية الاسرائيلية
من هذا كله نجد أن ما تدعيه إسرائيل والموالون لها من وجود صعوبات عملية في تطبيق حق العودة لا أساس له في الواقع. وأن التعويض، حتى لمن يرضون به، لن يكون بأى حال، حلاً من الحلول التي يمكن قبولها. هذا فضلاً عن أن التعويض لايمكن أن يكون بديلاً عن العودة. فحق اللاجئين في العودة والتعويض معاً ثابت قانوناً، وراسخ في وجدان اللاجئين. ومن العبث تجاهل هذه الحقيقة.
بهذا الاستعراض يمكننا أن نخلص إلي أن الطروحات الدولية التي تروجها اسرائيل ويقبل بها فريق صغير من العرب، ليس لها أى فرصة للنجاح. فمشاريع التوطين فشلت خلال 50 عاماً وستفشل ايضاً في المستقبل. وفكرة التعويض فكرة هزيلة في المبدأ والتطبيق والإخراج. والادعاء بأن العودة صعبة عملياً ادعاء لا أساس له من الصحة لامن وجهة ديموغرافية أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو جيو ستراتيجية. إذن ما العمل؟
الرأى العام الفلسطيني والدولى فى الساحة
تميزت نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين بصفتين سيكون لهما أعظم الأثر في مجرى الأمور. الأولى هى انتشار الجمعيات الأهلية (NGO) للدفاع عن حقوق الانسان والفئات المستضعفة والبيئة والاقتصاد العالمى. فقد أشار تقرير حديث للأمم المتحدة أن عدد الجمعيات الأهلية المعترف بها قد تضاعف خمس مرات خلال عقد التسعينات. لقد أصبحت هذه الجمعيات بمثابة برلمانات موازية في الدول الديموقراطية، بلو تحوّل بعضها إلي برلمانات حقيقية مثل جماعة الخضر. وبالطبع فإن الرأى الشعبى له وزن هام في ظل الديموقراطية. أما نشوء هذه الجمعيات في الدول العربية، على استحياء في أول الأمر،و مع قبول حذر من الحكومات بعد ذلك، مع تعرضها للبطش أو التوجيه القسري احياناً، لهو ظاهرة لايمكن زوالها، خصوصاً عندما تعالج قضايا تمس وجدان الشعب. ولذلك فإنه من المتوقع ازدياد عددهاو نفوذها في البلاد العربية.
والصفة الثانية في هذا القرن هى الشبكة الإلكترونية (الانترنت) إذ أزالت الحواجز عن المعلومات، فبواسطتها أمكن نشر الأخبار المكتومة، وسماع صوت الشاكين، والتعريف بقضية غير مرغوب فيها لدى بعض الجهات. ولاشك أن هذا الانتشار غير المحدود له بعض المساوئ، لكن النتيجة الإيجابية هى الغالبة إلى حد بعيد، لأن حاجز قبول المعلومات أو رفضها هو أمر شخصى في الأساس. ومنع الانترنت لا يختلف في معناه ونتيجته عن حرق الكتب لأنها قد تنشر أفكاراً هدامة، ومنع الأفلام لأنها قد تدعو إلي الإباحية، والتشويش على الإذاعة لأنها قد تذيع أخباراً غير مرغوبة.
إن تلازم هاتين الصفتين: الجمعيات غير الحكومية والانترنت هو أمر في غاية الأهمية. وقد أعطى انتقال الاخبار عبر الحواجز فعالية مباشرة وسريعة لهذه الجمعيات بأن استطاعت حشد قواها وتركيز جهودها، وتوجيه النقدو الاحتجاج إلي الجهة المقصودة بالانتقاد، بل وتوجيه اسئلة في برلمانات تلك الدول عن أى إخلال بحقوق الانسانو القانون الدولى.
ولم يكن موضوع اللاجئين وحقهم في العودة غائباً عن هذا الميدان، إذ يوجد اليوم ما يزيد على 200 موقع أو جمعية تؤيد حق العودة . وقد أفلحت كثير من هذه الجمعيات في رفع عرائضها إلى البرلمانات الاوربية على وجه الخصوص.
وقد نجح "مركز العودة الفلسطيني" في لندن في تخصيص يوم لتأكيد حق العودة في مجلس العموم في نوفمبر 1999، كما نجح مركز بديل في رام الله في عقد جلسات لنواب في البرلمانات الأوربية لايضاح حقوق اللاجئين. وقد انتشرت دعوة " مجلس استعادة الحقوق والعودة " في امريكا كالنار في الهشيم، ووقع على عريضتهم 80 ألف شخص. وقد تبنى مجلس" تفعيل السلام " في امريكا الدفاع عن حق العودة في يونية 2000 وله فروع في جميع الولايات. وتبنى العريضة معناه أن حق العودة أصبح برنامجاً سياسياً لهذا المجلس. كما نظم " تحالف حق العودة " شبكة هائلة من الاتصالات في امريكا وأوربا، ونظم مسيرتين في لندن وواشنطن تأييداً لحق العودة، وأصبح تأثير محسوس في الرد على الادعاء ات الإسرائيلية في الصحافة.
وفي المحيط الفلسطيني، أدت خيبة الأمل في اتفاقية أوسلو إلي إحباط، ما لبث أن لحقه تحرك لتكوين لجان للدفاع عن حق العودة في كل المخيماتو التجمعات الفلسطينية في البلاد العربية وفي الخارج. وفي 4 مارس 2000 صدر "إعلان حق العودة الفلسطيني" وهو ميثاق رعته لجنة من اثنى عشر عضوا لهم وزن فكرى وسياسي دون ان يكون لهم انتماء حزبى، ويمثلون مناطق جغرافية تغطى تجمعات الوطن والشتات.
ولحق ذلك عرائض وتحركات كثيرة تدعو إلى نفس الهدف. وكانت محصلة هذه الجهود كلها أنها أزالت غمامة الاحباط عن نفوس اللاجئين، وجددت فيهم العزم على المطالبة بحقوقهم، كما أنها أعطت دعماً (وتحذيراً) للسلطة الفلسطينية في مفاوضاتها مع اسرائيل، كما نبهت اسرائيل، التي بدت مندهشة، أن حق العودة لايزال المبدأ الاساسى لمطالبات اللاجئين. (في استفتاء للسلطة في سبتمبر 1999، ‘سئل المواطنون في غزةو الضفة: هل تقبل بدولة فلسطينية مقابل التنازل عن حق العودة. أجاب 91% منهم بلا ). وفي هذا المد الشعبى، تضاءلت صولة العاملين في " صناعة السلام "، فلم نعد نسمع صوتاً للمنادين بالواقعيةو إسقاط حق العودة.
كذلك أصبحت جرائم الحرب قضية شعبية بعد مذابح الصرب وكسوفا ورواندا. وأصبحت هذه الجرائم خاضعة لقانون دولى ومحكمة دولية انشئت بموجب ميثاق روما عام 1998. وهو الميثاق الذى لم توقع عليه إسرائيل ، لأنه يتعقب مجرمى الحرب مهما كانت مراكز هم ومهما كان دورهم، في أى بلاد توقع على الميثاق. ويعتبر الميثاق أن توطين فئات من الجهة الغازية (مثل المستوطنين) في أرض محتلة (مثل الضفة وغزة) هو من جرائم الحرب التي تستوجب العقاب.
هذا كله يعنى أن البعد الدولى الذى سيطر على قضية فلسطين وخطط للنكبة، وأهلها آنذاك لاحول لهم ولاقوة ولاعلم بما يحدث، والذى تحكم بعد ذلك في اقتراح الحلول التى تناسب اسرائيل ولاتناسب اللاجئين، قد تغيرت معالمه، ودخلت فيه قوى جديدة، ايجابية في غالبها لصالح اللاجئين. ومثال بسيط يبّين ذلك: هل يمكن أن يتخيل أحد اليوم أنه يمكن تهجير اهالى 531 مدينة وقرية كما حدث عام 1948 في تعتيم إعلامى كامل ودون هياج الرأى العام العالمى؟
دور الحكومات إقليمياً ودولياً
ماذا يمكن للسلطة الفلسطينية أن تفعل وهى مهيضة الجناح؟ تستطيع أن تسترجع ثقة الشعب الفلسطيني بالعمل المخلص واستقطاب الكفاءات والقضاء على الفساد، ورفض التنازلات عن الحقوق الأساسية مهما كان الثمن، وبإعطاء صورة جديدة لأهدافها وسلوكها وأشخاصها، وتستطيع أن تستعيد ثقة العالمين العربى والإسلامى ودعمها، وبدون ذلك لايمكن أن يكون هناك أى نجاح.
أما الدول المضيفة للاجئين، فيجدر بها أن تستفيد من تطابق أهدافها مع أهداف اللاجئين: كلاهما يرغب في تطبيق العودة. وبدل أن يكون هناك خلاف أو عداوة أو فتن بين الطرفين، يجب أن يكون هناك إجماع على الهدف ومواجهة للعدو المشترك. كما أن على الدول المضيفة الآ تخلط بين استحقاقها كدولة مضيفة من الدولة الطاردة (إسرائيل) وبين رغبتها في الاستفادة من أى تعويض قد يحصل عليه اللاجئون، فهو لو حصل سيكون ضئيلاً، وسيكون فردياً، والاستحواذ عليه غير قانونى.
أما الدول العربية والإسلامية فينبغى أن تعود لكى تكون الظهر الحامى والسند القوى للفلسطينيين في المطالبة بحقوقهم، وهى بذلك تكون ممثلاً حقيقياً لرغبات شعوبها، وينبغى ألا تختبئ وراء المقولة " إننا نقبل ما يقبل به الفلسطينيون "، فهذا الكلام غير قانونى على إطلاقه، وغير واقعى لان الشعوب ستثور في حال الحل الظالم، وغير أخلاقى أيضاً، فالموقف يكون بجانب الحق لا بجانب ما يصل إليه ضعف طالبه.
أما الموقف الأوربي من قضية اللاجئين فقد بدأ بوثيقة شومان، وزير خارجية فرنسا، التي وقعت عليها الدول الأوربية الستة اعضاء المجموعة الاوربية آنذاك في 1971/5/13، وطالبت الوثيقة بانسحاب اسرائيل إلي حدود 4 يونية 1967 وعودة اللاجئين إلي ديارهم التي طردوا منها. أما بيان فنيسيا الشهير فقد صدر في 1980/6/13، واعترف بأن للفلسطينيين حق تقرير المصير وأنهم ليسوا مجرد لاجئين، وهكذا تطور حق العودة من حق فردى إلي حق جماعى. وفي عامى 1997 (إعلان إمستردام) و1999 (إعلان برلين) تم التأكيد على حق تقرير المصير بما في ذلك إعلان دولة، وهذا التأكيد للأسف نتج عنه ضمناً عدم التركيز على حق العودة بمعناه التقليدى، ماعدا الموقف الفرنسى الذى بقى واضحاً وثابتاً. ففي 1999/11/24 صرح وزير الخارجية الفرنسى هيوبيرت فدرين أن عودة اللاجئين يجب أن تتم على أساس قرارات المتحدة. وهذا الموقف الفرنسى يجب تأييده وتشجيعه، كما يجب مواجهة الموقف الألمانى الأكثر تأييداً لاسرائيل في أوربا، وتفعيل الموقف البريطانى الذى يقول كلاماً جيداً ولا يعمل شيئاً. وأوربا على وجه العموم تكتفى بالدعم المالى، وتترك التصرف للولايات المتحدة، أو كما قال لى مسئول أوربى: ”.we pay they play“
وعلى الدول الاوربية واجبان: الأول واجب تجاه ما أدى إليه تاريخها في بلادها وفي فلسطين من كوارث حلت بالفلسطينيين. هذا الواجب واجب اخلاقى، وواجب قانونى لو كان لفلسطين سلطة المتقاضى في محكمة العدل الدولية، وواجب سياسي ايضاً، فأن عدم الاستقرار ضار بمصالحها، ولا تستطيع أى دولة أوربية تجاهل ذلك. أما الواجب الثانى فهو تجاه نفسها، فهى إن كانت تريد أن يكون لها نفوذ طبيعى ومصالح اقتصادية في المنطقة، فعليها أن تقف المواقف التي تدعم ذلك. وفي هذا المجال فإن على بريطانيا وألمانيا أكبر الاعباء والمهمات لاسباب معروفة. وهذه الاعباء واجبة الاداء، ولايمكن التخلص منها، وستبقى كسيف ديموكليس معلقاً إلى أن تقوم بالدور التصحيحي اللازم مهما استغرق هذا من الوقت.
أما امريكا، فستبقى الوجه الثانى للعملة الاسرائيلية، ولن تتحّول عن ذلك إلا إذا وجدت أن إضرارها بمصالح العرب له ثمن يدفع مقابله، وحينئذ قد يتجاوز الثمن المدفوع قيمة الأضرار التي سببتها. وهذا لن يتأتى إلا بسياسة عربية جديدة متضامنة تدافع عن مصالحها المشتركة. ومن جهة أخرى، لست أرى في المناخ الحالى أى فرصة لابراء أمريكا نفسها من السيطرة الصهيونية بجهود أمريكية وطنية. وإلى أن يأتى الوقت الذى يجتمع فيه العرب على سياسة وطنية واحدة أو يجتمع فيه الأمريكيون على سياسة وطنية محلية غير مسّيرة خارجياً، فإن امريكا ستبقى عرضة لوخزة هنا أو هناك كرد فعل غير منظم على انحيازها،و ستبقى فى حالة قلق دائم من مشاعر وأفعال الشعوب العربية تجاه الحكام وتجاه امريكا نفسها.
أما اسرائيل فقد بدأت تخرج من شرنقة الصهيونية التقليدية. لقد أسقطت فكرة التوسع الجغرافى على الأرض، بسلسلة من الانسحابات ستستمر في المستقبل. وبدأت نهاية نظام الكيبوتس الذى أفلس أيديولوجيا واقتصادياً، وتضاءل المعنى الرمزى للأرض في العقيدة الصهيونية، وأصبحت قطعة عقار تباع وتشترى، بعد أن بدأت اسرائيل تبيع أراضى اللاجئين التي يستئجرها الكيبوتس، وتحطمت هالة ما قيل أنه "طهارة السلاح" و‘مثل الصهيونية العليا بعد ما نشره المؤرخون الإسرائيليون من تاريخ اسرائيل المخزي عن المذابح والقتل والتشريد، وهو نفس التاريخ الذى كان يردده الفلسطينيون خلال خمسين سنة ولم يصدقهم أحد.
و بالمقابل تطورت اسرائيل إلى أن أصبحت قلعة اقتصادية وقلعة عسكرية ذات نفوذ يتحكم في قرارات واشنطن وموسكو، وتريد الآن بمعاهدات السلام مع العرب الاستمتاع بما نهبت وسلبت كحق شرعى، والاستفادة من قدراتها الاقتصادية والعسكرية في تسيير شئون المنطقة وإخضاعها. وقد تتوسع في هذا الاتجاه إلى أن تصبح مثل الثقب الأسود، قوة هائلة في مكان ضيق، تأكل نفسها. أو ربما تجرى الاحداث التي تقودها فئات أو وجوه جديدة من الشعب العربي، غيرحكامه، بما لايتوقع أحد. فمن خصائص ردود الفعل الشعبية، أنها غير متوقعة، وكاسحة. ويكفى أن نتذكر كم سقطت عروش وأنظمة بعد النكبة.
شكل رقم (1) توزيع السكان الفلسطينيين واليهود في فلسطين المحتلة عام 1948 (إسرائيل).
المنطقة (A) منطقة ذات كثافة يهودية عالية وهي تقريباً نفس الأراضي التي عاشوا فيها قبل عام 1948.
المنطقة (B) منطقة مختلطة اليوم وتساوي مساحتها تقريباً مساحة أراضي الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم، ولكن إسرائيل صادرت الآن أكثر من ثلثيها.
المنطقة (C) وهي في معظمها الأراضي التي هُجّر منها أهلها عام 1948، وأصبحوا لاجئين. وهي الآن إما عربية في الغالب (مثل الجليل) أو قليلة الكثافة (مثل الجنوب)، ولا يعيش فيها إلا 000ر160 يهودي ريفي، يعمل منهم في الزراعة 600ر8 من مزارعي الكيبوتس. هذا عدا اليهود الذين يعيشون في المدن الفلسطينية.