جاء توقيع (اتفاق طابا) في أيلول ( سبتمبر ) 1995 نتيجة طبيعية لاتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، لذلك فإنه لم يأت بقفزة نوعية جديدة نحو الحقوق الفلسطينية. مدحت الاتفاق دول غربية ودول عربية وقعت معاهدات السلام مع إسرائيل، وذمته دول عربية لم توقعها. أما الفلسطينيون فإنهم يقيسون هذا الاتفاق بمقياس واقعي بسيط: هل أعاد هذا الاتفاق حقوقي أم تنازل عنها لإسرائيل؟
لنترك الشعارات والمزايدات والتصريحات السياسية جانباً، ولنحاول الإجابة عن هذا السؤال بالحقائق والأرقام.
بعد 47 عاماً من الحروب والتشتيت والمعاناة، يقارن الفلسطينيون بين حقوقهم المشروعة التي أكدها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وأيدتها شعوب أكثر من 115دولة، وحاربوا من أجلها طوال هذه السنين، وبين ما قدمته لهم إسرائيل في اتفاق طابا من (تنازلات). كشف الحساب الذي يمثل هذه المقارنة مبين هنا في الجدول وعناصره الأساسية هي الآتية:
الأرض: إرث الشعب الفلسطيني وموطنه، وهي جوهر النزاع مع الصهاينة منذ عام 1917، تبلغ مساحتها 26.320.000 وعندما أنشئت دولة إسرائيل في عام 1948، كانت مساحة الأرض اليهودية 1.491.699دونماً أي 5.7 في المائة من مساحة فلسطين، ومنها انطلق الجيش الإسرائيلي ليحتل باقي فلسطين، وأجزاء من مصر والأردن وسورية ولبنان، والآن يعطي اتفاق طابا وما قبله من الاتفاقات، السلطة المدنية (فقط) على نصف قطاع غزة وثلث الضفة الغربية، أي ما مساحته 1.86.000 دونم تقريباً (أنظر الخريطتين). ومن سخرية القدر أن هذه المساحة تساوي تقريباً مساحة الأراضي اليهودية في فلسطين عام 1948، فكأنما تبادل الفلسطينيون واليهود أراضيهم، فأخذ الفلسطينيون 6 في المائة وأعطوا اليهود 94 في المائة من فلسطين بدلاً من العكس.
وعلى رغم ذلك، ترى إسرائيل أنها تملك فلسطين كلها، وما بها من مصادر طبيعية، لذلك فإنها تقنن للفلسطينيين كمية المياه التي يستعملونها، بعد استيفاء حاجاتها من دون أن يكون لهم الحق المطلق حتى في مياه الضفة الغربية وغزة. وعلى سبيل المثال، تبلغ مصادر المياه في الضفة 700 مليون م3/ سنة، تأخذ منها إسرائيل 420 مليون م3، والفلسطينيون (1.500.000 نسمة) 115 مليون م3، والمستوطنون (130.000 شخص) 50 مليون م3، أي أن نصيب المستوطن من المياه خمسة أضعاف نصيب الفلسطيني، وأعطى (اتفاق طابا) الفلسطينيين زيادة في حصة المياه مقدارها 28 مليون م3.
كان المبدأ الإسرائيلي ولا يزال واضحاً منذ الاستيطان الصهيوني: الأرض وما عليها وما بها ملك لإسرائيل، والفلسطينيون الذين لا مفر من وجودهم على هذه الأرض، لهم حق الإقامة (وليس الملكية) لمن ترى إسرائيل أن تبقيه، أو تدخله إلى البلاد في أضيق الحدود، بعد دفع الأثمان الباهظة.
وباستيلاء إسرائيل على المصادر المائية، فإنها بذلك تستطيع التحكم في التطور الزراعي والصناعي الفلسطيني كما تشاء. السكان: يبلغ عدد الفلسطينيين الآن 7.700.000 نسمة (انظر الشكل).
منهم حوالي المليون (12 في المائة) في إسرائيل،و 2.255.000 (29 في المائة) في الضفة وغزة، ويبقى 4.500.000 فلسطيني في الشتات، لا يعود عليهم (اتفاق طابا) بشيء. وإذا استثنينا الفلسطينيين في إسرائيل من الحساب، فإن فلسطينيي الشتات يمثلون أكثر من ثلثي الشعب، ولا يمكن تصور نجاح أي اتفاق أو ديمومته إذا تجاهل معظم الشعب وأعطى الثلث الباقي رخصة مقيدة للحياة.
يبلغ عدد السكان اليهود في إسرائيل الآن 4.500.000 نسمة، وعند إنشاء إسرائيل، كان عددهم 605.900، منهم 250.000 يحملون الجنسية الفلسطينية، والباقون أغراب، وبالزيادة الطبيعية، أصبح عدد يهود 1948 هذا العام 1.682.000 وهذا يعني أن 2.800.000 يهودي استجلبوا من الخارج، لإحلالهم محل 4.500.000 فلسطيني طردوا من ديارهم، بمعنى آخر، أسبغ الاتفاق حقوقاً شرعية على 2.800.000 مستورد، وحرم 4.500.000 فلسطيني من حقوقه الطبيعية.
أن حق العودة لـ 4.5 فلسطيني حق مقدس وقانوني وممكن أيضاً، وضمن هذا الحق الإجماع الدولي الذي تمثل في تأكيد القرار 194 الصادر في 1948/12/11، سنة بعد سنة، منذ ذلك التاريخ، وهذا الحق نابع أصلاً من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان (المادة 13)، ومن مبدأ (حق تقرير المصير) الذي اعترفت به عصبة الأمم عام 1920 والأمم المتحدة عام 1947، وصدر قرارها في عام 1969 بانطباقه على الشعب الفلسطيني بالذات، وعلى حقه في الدفاع عن نفسه من دون سقوط هذا الحق بالتقادم.
ولا يمكن تجاهل 47 عاماً من العذاب والتشريد لأهالي 532 بلدة طردوا من بلادهم، ويشكلون اليوم أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني. ويعيش اليوم 80 في المائة من اليهود في تل أبيب والقدس وحيفا في مساحة لا تتجاوز 9 في المائة من مساحة فلسطين، بينما تعيش القلة الباقية من اليهود في المدن الأخرى، وأقل من 3 في المائة منهم يفلحون أراضي 4.5 مليون فلسطيني، وهم الناجون من الهولوكوست الفلسطيني عام 1948 الذين طردوا من أرضهم، وهذه الأرض الآن شبه خالية إلا من 200.000 إسرائيلي.
ومناقشة حق العودة مؤجلة الآن ومن المتوقع أن تخلق إسرائيل كل العقبات الممكنة لتنفيذه، إلا إذا أعد الفلسطينيون إعداداً كاملاً لاسترجاع هذا الحق الطبيعي الذي لا رجوع عنه.
ويطلب "اتفاق طابا" من الفلسطينيين تغيير الميثاق الوطني، لأنه يدعو إلى تدمير إسرائيل، كما تقول السفسطة الدعاوية، والميثاق ليس معنياً بتدمير أي بلد، ولا أصحابه قادرون على ذلك. الميثاق معني بحق أساسي من حقوق الشعوب كلها وهو الإقامة في بلاده، حراً، مستقلاً، يتمتع بالسيادة والعيش الكريم عليها، ويستحيل أن يتحول الشعب الفلسطيني عن هذا الحق الأساسي، ولو قبل "ممثلوه" بذلك لسعى إلى تغييرهم بكل الطرق. ومن العبث التوقع بأن توافق غالبية أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني على إهدار حق الشعب الفلسطيني الطبيعي والمقدس في أرضه، ولو دعي المجلس إلى الاجتماع، وهو لم يدع بعد للموافقة أو عدم الموافقة على اتفاقات أوسلو، فلن يصل إلى نتيجة غير هذه.
إن خطورة اتفاقات مبتسرة ومحدودة وانتقالية، مثل هذه، إنها تعطي شرعية لإهدار حقوق فلسطينية ثابتة ومعترف بها، ولم يحدث في تاريخ فلسطين أن تنازل الشعب عن حقوقه، فلا وعد بلفور ولا صك الانتداب، ولا مشاريع التقسيم المختلفة وآخرها تقسيم عام 1947، ولا اتفاقية الهدنة، ولا قرار 242 يلزم الفلسطينيين قانوناً بأي شيء، ولا يحرمهم من أي حقوق مثل حق تقرير المصير وحق السيادة وحق الجنسية وحق العودة إلى الوطن، وعدم جواز احتلال أرضهم بالقوة وعدم جواز ضم القدس. الشيء الوحيد الذي يحرمهم كشعب من هذه الحقوق هو تنازلهم عنها، بتوقيع من "ممثليهم الشرعيين"، حينئذ تسقط القرارات الدولية ويصبح التأييد الشعبي العالمي لهم لا تأثير له، ولهذا السبب وحده، اعترفت الولايات المتحدة وإسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية، كممثل للشعب الفلسطيني، لكي توقع هذه الاتفاقات، وتوقيع الجهاز التنفيذي في المنظمة على هذه الاتفاقات غير كاف وله صلاحية محدودة، لا بد لسريان هذه الاتفاقات من موافقة الهيئة التي تمثل الشعب الفلسطيني، وهم أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ولا يتصور أن يتنازلوا عن الحقوق الفلسطينية الأصلية، التي من أجلها تشكل هذا المجلس.
وبالنسبة للإدارة المحلية، منحت إسرائيل السلطة الفلسطينية (المحذوف منها كلمة الوطنية) سلطات محدودة لإدارة شؤونها الداخلية، خاضعة دائماً للمتطلبات الإسرائيلية في السيادة على الأرض والماء والأمن والشؤون الخارجية، وأحسن مثال لإيضاح ذلك، هو المقارنة مع السلطات الممنوحة للفلسطينيين في إسرائيل، فهي مشابهة تماماً لاتفاق طابا، كلاهما له سلطة إدارة الشؤون البلدية والانتخابية المحلية، وكلاهما لا يجوز له انتخاب من يعادي إسرائيل، ولا يجوز له التطوير العمراني أو الصناعي خلاف المتطلبات الإسرائيلية، كلاهما ليست له سيطرة على الأرض كأقليم، أو على مياهه وثرواته. كلاهما ليس له اقتصاد مستقل أو جيش، أو سياسة خارجية. كلاهما لا يخدم في الجيش الإسرائيلي (عدا الدروز). تمتاز السلطة بأن لها شرطة فلسطينية تخدم أمن المواطنين والإسرائيليين، ولكن ليس لها سلطة على الإسرائيليين، مستوطنين أو غيرهم. لكن الفلسطينيين في إسرائيل يمتازون بحمل جواز سفر معترف به في أهم دول العالم، وحق الانتخاب في الكنيست والتمثيل فيه، مما يؤثر (كما حدث أخيرا) في سياسة حكومة إسرائيل، بل واحتمال إسقاطها. وهو أمر لا يتوقع أن تتمتع به السلطة، لا ككيان داخل الهيمنة الإسرائيلية، ولا ككيان خارجي مجاور لإسرائيل.
وإذا قيل إن اتفاق طابا هو مرحلي، وأن الحقوق الأخرى ستأتي في المفاوضات النهائية، فإنه لا يبدو، من التجربة السابقة، لا من حيث قوة المفاوض الفلسطيني، ولا من حيث براعته في التكتيك، واستخدام المعلومات والحقائق، واستقطاب الإجماع العربي والدولي، ما يوحي بأن التجربة الجديدة ستكون أفضل حالاً.
وتأمل إسرائيل أن توقع معاهدة سلام مع سوريا ولبنان، قبل الاتفاق النهائي مع الفلسطينيين. وبذلك لا يبقي لهم سند أو قوة تفاوضية. كما أنها ستستغل نموذج الاتفاقيات السابقة، وخلق الحقائق على الأرض، لتصبح المفاوضات الجوهرية الباقية فارغة المحتوى.
إن الفجوة بين الحقوق الفلسطينية، والتسهيلات الممنوحة من إسرائيل طوعاً (أو كما قال مفاوض إسرائيلي لنظيره الفلسطيني: "هذه أوامري، وعليك تنفيذها")، هي فجوة كبيرة جداً، ولا يمكن عبورها بقوة المفاوضة من طرف ضعيف. ويكفي ما سبق بيانه من الأرقام والحقائق لبيان حجم هذه الفجوة.
ولذلك لابد من إعادة الحسابات، وإعادة تركيب الهيكل التفاوضي، مادة ونوعاً وكماً، وأهم من ذلك كله، استقطاب الطاقات الهائلة في الشعب الفلسطيني، التي تمثل قوة وخبرة وكفاءة، وتعبئتها في هيكل ديموقراطي كفء ونظيف، لتضخ دماً جديداً في الكيان الفلسطيني، الذي يراوح الآن بين سلطة مغلوبة على أمرها، ومعارضة سلبية لم تقدم بديلاً مقبولاً للعامة، ودعم الدور التاريخي الذي يقوم به المجلس الوطني الفلسطيني لاسترجاع الحقوق الفلسطينية، بدلاً من تهميشه وتجاهله. واعتقادي أن هذا هو رأي التيار الأعظم من الشعب الفلسطيني.
لكن أخطر المخاطر على الإطلاق، هو في محاولات الحصول على توقيع ممثلي الشعب في المجلس الوطني الفلسطيني على تنازلات عن حقوقه الشرعية في وطنه. وهذا لحسن الحظ لم يحدث حتى الآن. ويبقي سؤال الفلسطيني البسيط علامة حقيقية على قيمة أية اتفاق: " ما الذي أعاده لي من حقوقي؟".